منذ حوالي ساعة
فما أحوج البيوت لحِلْم الزوجين وأناتهما بعد التحقُّق من الخطأ، وقبل إيقاع عقوبة! وما أحوج الإخوة والأخوات، والأرحام والقرابات لمنهجية: «ما حملك على هذا؟» قبل اتخاذ أيّ موقف!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فتلك كلمة شريفة، ترددتْ كثيرًا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الطاهر، مَثَّلَتْ منهجَ حياةٍ في التعامل مع الأخطاء؛ مقصودةً كانت أو عفوية.
كلمة كانت تنطلق من فم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يتَّخذ أيّ موقف، في مرحلةٍ تتلو ثبوت الجريمة أو الخطأ، وتسبق اتخاذ أيّ قرار، حتى في أخطر القضايا (الخيانة العظمى كما تُسمَّى بلغة العصر)، وهذا ما حصَل مع الصحابي الجليل البَدْريّ؛ حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه-، حينما كتب إلى قريش باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم لغزوهم في مكة!
والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد حَرِصَ جُهْده على تعمية الخبر، والاستسرار بهذا التحرك، والتورية بمقصده. في خطوةٍ منه -صلوات ربي وسلامه عليه- لأخذهم على غرَّة فيستسلموا، دون أن يستعدّوا لحربٍ، فتنشب ملاحم، وتُزْهَق نفوس، وتُراق دماء. ولو وصل كتاب حاطب، وبلغهم الخبر للبسوا الحديد، وجهَّزوا كل شجاع صنديد.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، -حين نزل الوحي بخبر حاطب- أرسَل في طلب الكتاب، فأُدرِكَ قبل أن يصل لقريش، فاستدعاه وأراه كتابه! فلما ثبتت القضية عليه بادَره بالسؤال: «ما حملك على ما صنعتَ؟»[1]؛ استجلاءً للسبب الدافع لهذه (الخيانة العظمى) في عُرْف السياسات الدولية قاطبة.
وأغلب التعاملات البشرية لا ترتقي لهذه المرحلة الراقية جدًّا من التعامل، فتقف عند حدود ثبوت الجريمة، ثم يبدأ السيف والعصا واليد (والرِّجل) في العمل، لتُفسِد قلب المعذور، وتحرق قلب العَجول بقية دهره، حين تنكشف الحقائق عن عذر الواقع في الخطأ.
ولا زلنا نتذكر القصة الرمزية التي قَتَل فيها الأبُ هرةَ المنزل الملطَّخة يداها بالدماء؛ ظنًّا منه أنها قتلت طِفْلَه! ثم تبيَّن الواقع بعد ذلك على حقيقته أنها قتلت حيةً كانت ستلدغ طفله وتقتله! تخيَّل كمية الحسرة وتأنيب الضمير التي ستُحيط به وتعايشه زمنًا من الدهر، فكيف بالحال لو كان الخطأ أكبر! وكان مع أحد من البشر!
هذا لمن كان له ضمير حي! أما من مات ضميره فلن يكترث، وسيتمادى في ضلاله، ولربما أخذته العزة والأنفة بالإثم فاستمر في غيّه.
ولعلنا بهذا ندرك جانبًا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم حينما حثَّ على الحِلْم والأناة، والرفق، فالحلم والأناة صفتان شريفتان راقيتان، يحبّهما الله -جل وعلا-، كما في حديث أشجّ عبد القيس: « «إِنَّ فِيكَ خصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة» »[2].
فما أحوج البيوت لحِلْم الزوجين وأناتهما بعد التحقُّق من الخطأ، وقبل إيقاع عقوبة! وما أحوج الإخوة والأخوات، والأرحام والقرابات لمنهجية: «ما حملك على هذا؟» قبل اتخاذ أيّ موقف! وما أحوج المجتمعات بجميع فئاتها وأحوالها لهذا المبدأ في أجوائها الوظيفية، وجيرتها السكانية، وصداقاتها ومساربها وطرقها.
جمع الله القلوب على ما يُرضيه، وطهَّر الجوارح مما يُغضبه.
[1] أخرجه البخاري (3762).
[2] أخرجه مسلم (25).
Source link