عصمة الملائكة عليهم السلام من جميع الذنوب، وبيان فضلهم ومكانتهم. – أبو حاتم سعيد القاضي

الإيمان بالملائكة أحدُ أركان الإيمان، فلا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يؤمنَ بالملائكة، وللملائكة فضلٌ عظيمٌ

الإيمان بالملائكة أحدُ أركان الإيمان، فلا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يؤمنَ بالملائكة، وللملائكة فضلٌ عظيمٌ، وهل هم أفضلُ من البشرِ أم لا؟ فيه وجهان للعلماء، وليس هنا محل بسطه. وأمَّا فضلُهم في الجملةِ فهو مِمَّا أجمعتْ عليه الأمةُ، ومما يدلُّ على فضلهم:
1- أقسمَ الله بالملائكة:
وما ذلك إلا لشرفِهم وفضلِهم؛ قال الله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 1-5]، وهي الملائكة في قول كثير من المفسرين.
وقال سبحانه: {{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}} [الصافات: 1-3]، قال جمهور العلماء: هم الملائكة.
وقال تعالى: {{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} } [المرسلات: 1 – 5]. قيل: هي الملائكة. وقيل غير ذلك، إلا قوله: { {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا}} [المرسلات: 4 – 6]، قال ابن كثير: يعني: الملائكة. ولا خلاف هاهنا. [تفسير ابن كثير” (8/ 296)].
2- كثرةُ ذكرِهم في كتابِ الله تعالى:
وهو ذكرُ ثناءٍ ومدحٍ فيه بيانُ مناقبِهم وصفاتِهمُ الحسَنَةِ، وقد تكرَّرَ ذكرُ الملائكةِ في القرآنِ في قريبٍ من سبعين موضعٍ.
قال ابن القيم رحمه الله: “لا تخلُو سورةٌ من سورِ القرآنِ عن ذكرِ الملائكةِ تصريحًا، أو تلويحًا، أو إشارةً. وأمَّا ذكرُهم في الأحاديثِ النبويَّةِ فأكثرُ وأشهرُ من أن يُذكَرَ، ولهذا كانَ الإيمانُ بالملائكةِ عليهم السلام أحدَ الأصولِ الخمسِ”. [“إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان” (2/ 131)].
3- وصفَهم الله سبحانه بالعبادِ المُكرَمين:
قال سبحانه: {{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}} [الأنبياء: 26]، وقال الله تعالى: {{كِرَامٍ بَرَرَةٍ} } [عبس: 16]. وقال سبحانه: {{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)}} [الإنفطار: 10-11]. وقال تبارك وتعالى: {{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}} [الذاريات: 24].
4- ﻗﺮﻥ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﺫﻛﺮﻫﻢ ﺑﺬﻛﺮﻩ:
وهذا ﰲ ﻣﻮﺍﺿﻊ ﻛﺜﲑﺓ ﰲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﱘ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﻮﺭ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ومن ذلك: قال الله تعالى: {{لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}} [النساء: 166].
وقال سبحانه: {{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}} [الأحزاب: 43].
وقال الله تعالى: { {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}} [آل عمران: 18]، فقرَن سبحانه وتعالى شهادةَ ملائكتِه وأولي العلم بشهادتِه، وهذه منقبةٌ عظيمة للملائكة والعلماء الربانيين.
5- وصفهم الله بأنهم مقربون:
قال الله تعالى: {{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} } [النساء: 172].
وقال سبحانه: {{إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}} [المطففين: 18 – 21]. قيل: المقربون: الملائكة، قاله قتادة. وقيل: يشهدُه من كل سماءٍ مُقرَّبوها.
6- وصفهم الله بأنهم مطهرون:
قال الله تعالى: { {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} } [الواقعة: 77 – 79].
قال الطبري: هو الكتاب الذي في السماء، في كتاب مصون عند الله لا يمسه شيء من أذى من غبار ولا غيره.
قلت: وقال جمهور المفسرين: هم الملائكة.
عن قتادة قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس، والمنافق الرجس.
وقيل: إذا أراد الله أن يُنزِلَ كتابًا نسختْه السَّفرةُ، فلا يمسه إلا المطهرون.
وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون.
وقيل: هم الذين قد طهروا من الذنوب كالملائكة والرسل.
وقيل: {{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} } من الجنابة والحدث، ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب، والمراد بالقرآن هاهنا المصحف الذي بين أيدينا.
قال القاضي عياض رحمه الله: “أجمعَ المسلمون على أنَّ الملائكةَ مؤمنون فُضَلاء”. [الشفا (2/ 174)].

عِصمَةُ الملائكةِ:
الراجحُ من قولَي العلماء أنَّ الملائكةَ جميعًا معْصُومُون لا يُذنِبون أبدًا، ولا يعصُونَ ربَّهم.
ومن الأدلة على ذلك:
1- قوله سبحانه: {{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}} [الأنبياء: 27]، أي: لا يتكلَّمون إلا بما يأمرُهم به ربُّهم، ولا يعملون عملًا إلا به.
2- قوله تعالى: {{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}} [التحريم: 6]. قال الرازي رحمه الله: “قوله: {{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}} فهذا أيضًا يدلُّ على أنهم فعلوا كلَّ ما كانوا مأمُورِين به، وذلك يدُلُّ على عصمتهم عن كلِّ الذنوبِ”.
3- قوله سبحانه: {{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}} [النحل: 50].
4- قوله سبحانه: {{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} } [الأنبياء: 20].
5- قوله سبحانه: {{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} } [الأنبياء: 19].
6- قوله سبحانه: { {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} } [النحل: 49]، قال الرازي رحمه الله: “فيها دلالةٌ قاطعةٌ على عصمةِ الملائكةِ عن جميعِ الذنوبِ؛ لأنَّ قولَه: {{وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}} يدُلُّ على أنهم مُنقَادون لصانِعهم وخالِقِهم وأنهم ما خالَفوه في أمرٍ من الأمورِ.
7- قوله سبحانه: {{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}} [الصافات: 164 – 166].
قال القاضي عياض رحمه الله: “اتفقَ أئمةُ المسلمين أنَّ حُكمَ المرسلين من الملائكةِ حكْمُ النَّبيين، سواءٌ في العِصمَةِ، وأنهم في حقوقِ الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياءِ مع الأممِ. واختلفوا في غيرِ المرسلين منهم فذهبتْ طائفةٌ إلى عصمةِ جميعِهم عن المعاصي. وذهبت طائفة إلى أنَّ هذا خصوصٌ للمرسلين منهم والمقربين. والصوابُ عصمةُ جميعِهم وتنزيهُ نصابهمُ الرَّفيعِ عن جميعِ ما يحُطُّ من رتبَتِهم ومنزلَتِهم عن جليلِ مقدارهم”. [الشفا (2/ 174، 175)].
قلت: واحتَجّ من لم ير عصمَتَهم بقصَّةِ هاروتَ وماروتَ، وهي حجةٌ ضعيفةٌ جدًّا؛ إذ لم يُرْوَ في قصة هاروت وماروت شيءٌ صحيحٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وتأمل أيها القارئ الكريم تجد أن الله عز وجل قد خلق خلقا لا يعصونه أبدا، وهم الملائكة المكرمون، وخلق سبحانه خلقا آخرين يتلبسون بالمعاصي والذنوب، وهم نحن البشر، قد فطرهم الله وجبلهم على حب الطاعة، وفطرنا سبحانه على حب الطاعة وحب المعصية، فجعل لنا نفسًا تأمرنا بالسوء، بينما هم لا تأمرهم نفوسهم إلا بالخير.
فإذا عصيت يا أخي فاعلم أن كلنا يعصي، لكن إذا عصيت فلتحزن على ذنبك، ولتبك على خطيئتك، ولتبادر بالتوبة والاستغفار والإنابة، غفر الله لي ولك وشملنا بستره الجميل.

وكتبه/ سعيد القاضي
مصر _ كفر الشيخ
8 ربيع أول 1444


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *