منذ حوالي ساعة
وقد حدَث حوار بين هرقل ملِك الروم وبين أبي سفيان صخر بن حرب، زعيم قريش، ونظرًا لدقَّة وعُمق ما قيل في هذا الموقف….
د. مصطفى عطية جمعة
هذه شهادةٌ لهرقل، قيصرِ دولة الروم، وهي الدولة الأكبر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث أَرسَل الرسولُ برسالة إلى هرقل، يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد حدَث حوار بين هرقل ملِك الروم وبين أبي سفيان صخر بن حرب، زعيم قريش، ونظرًا لدقَّة وعُمق ما قيل في هذا الموقف، فمِن المهمِّ ذكْر النصِّ – رغم طوله – حسبما جاء في صحيح البخاري؛ حتى يتمعَّن القارئ في دلالات شهادة هرقل مع أبي سفيان بن حرب، وهذا ملِك الروم وقيصرهم، وذاك زعيم قريش:
♦ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أن أبا سفيان بْنَ حَرْبٍ، أَخْبَرَهُ: ( «أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ – وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّاْمِ – فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سفيان وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ، وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْأَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أبو سفيان: فَقُلْتُ أنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ أِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ» ).
فقد كان هرقل، قيصر دولة الروم، موجودًا في مدينة إيلياء في بلاد الشام، فعرف بوجود قافلة تجاريَّة من قبيلة قريش في مكة المكرَّمة، فدعا هرقل أفرادَ هذه القافلة من العرب، ثم أراد أن يتعرَّف على الأقرب نسبًا من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فتقدَّم إليه أبو سفيان بن حرب، وهو مِن وُجهاء قريش، وكان لا يزال على الكُفر، ويُناصب الرسولَ محمدًا العَداءَ، وكان الرسولُ وقْتها في المدينة المنوَّرة، وهنا طَلَبَ هرقل مِن الترجمان أن يجعل باقيَ العرب المرافقين لأبي سفيان خلْف زعيمهم، ليعترضوا عليه إذا كَذَب في شيء، وهذا دليل على رغبة الرجل في الاستيثاق مِن كلام أبي سفيان، وردِّه مِن قِبَل قومِه إذا أخطأ، والرواية هنا على لسان أبي سفيان، الذي مَنعَه الحياءُ مِن قومه، ومن المجلس أن يغيِّر أقواله، فالتزمَ الصِّدق في كل ما قيل.
نعلم أن هرقل كان على دِيانة النصرانية، وهو ذو عِلم وحِكمة وبصيرة، وهذا ما سيتَّضح في الحوار المكثَّف بينه وبين أبي سفيان، يقول أبو سفيان:
♦ ( «ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَألَنِي عَنْهُ أن قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ» ).
الملاحَظ أنَّ أسئلة هرقل، كانت دقيقةً للغاية، فقد سأل عن نسَب الرسول؟ ومَن أعلَم بالأنساب مثل أبي سفيان! فأخبره أبو سفيان أنه ذو نسَب عظيم، وهو نسَب يمتدُّ إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام[1]، وأنه رغم ذلك، فليس مِن آباء الرسول ولا أجداده مِن مَلِكٍ، وأنَّ مَن يؤمن بدعوته هم الضعفاء من الناس، ومَن آمن به لا يتراجع عن إيمانه، وهم في ازدياد رغم الحرب السِّجال بين الكفار والمسلمين. ثم شهد أبو سفيان أن دعوة الرسول تُنادي بتوحيد الله، ثم بالصلاة وحُسن الخُلق والعفَّة في القول والسلوك.
لقد قدَّم أبو سفيان صُورة شاملة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي صورةٌ صادقة، توضِّح أنَّ أبا سفيان وهو مشرك، كان يَعلم جيِّدًا طبيعة رسالة محمد، وما يدعو إليه مِن مكارم الأخلاق، وصدْقه وأمانته، وأنَّ الحرب السِّجال التي كانت بين كفار مكَّة والنبيِّ في المدينة هي حرب على غير أساس عقلي أو أخلاقي أو ديني، فقد سلَّم زعيم قريش بعِظَم رسالة محمد، وعِظَم نَسَبه، وأنَّ دعوته في ازدياد، وأنَّ مَن يؤمن بالإسلام لا يتخلَّى عنه مهما حدَث له، وهذا يعني فيما يعني: ثبات موقف الرسول الحركي، وثبات أتْباعه، وتكاثُرَهم، وأنَّ دعوته تغزو القلوبَ بيُسر، فإذا غزَت القلوبَ لا تُغادرها، ورغم أن الإسلام يُنادي أن يتْرك الناسُ دِيانة آبائهم، وهي الشِّرْك والكفر بالله تعالى، إلَّا أنَّ الإسلام يأمر بالصِّلة – على حدِّ قول أبي سفيان – أي: صِلة الرَّحم، وهذا دليل على أن القضية ليست مُقاطعة الآباء، وإنما اتِّخاذ موقف مِن العقائد التي كانوا يؤمنون بها، وهو موقف يُريد الصلاح للناس، وليس قطيعة الرحم. ولنُكمل ونرى:
♦ ( «فَقَالَ (هرقل) لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَألْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ: لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ: لاَ، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ: لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ: أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَاَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ: أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ: لاَ، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ: لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ، وَسَاَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ: أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ. فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ» ).
فقد علَّل هرقل في تعقيبه على كلام أبي سفيان، بتعليل جمع بُعدين: البُعد العقلي، والبُعد الدِّيني المستَقَى مِن كُتُب أهل الكتاب السابقين، ثم قدَّم بشارةً.
أما البُعد العقلي:
♦ فإنَّ الرسول لم يكُن كذَّابًا، واشتُهر بالصِّدق، وهذا ما يجعله ذو مصداقية عالية عند الناس، وفي نفس الأمْر، فإنَّ الصادق عاقل ذو إيمان، فلا يكذب على الله، ويَصْدُق الناس.
♦ لم يحْدث أنْ قام أحدُ أبناء مكة أو قريش بادِّعاء النبوَّة، حتى يقلِّده الرسول محمد فيما يقول، فهو أول مَن دعا بالنبوة في قومه.
♦ ليس لآباءِ محمد صلى الله عليه وسلم مُلك أو سلطان، حتى لا يظنَّ أنه أراد أن يُطالِب بمُلْك آبائه، فاتخذَ النبوَّة وسيلة لذلك.
أما البُعد الدِّيني وهو مُستَقًى مِن اطِّلاع هرقل على الكُتب السماوية السابقة فيبدو في تأكيده على:
♦ أنَّ كل رسول مبعوث في قومه فهو ذو نسَب طيِّب، معروف الأصل، وتلك حكمة عظيمة، حتى لا يكُون دخيلًا أو مدَّعيًا يطلب الشهرة والصيت من دعواه.
♦ أن الرسول محمد يتبعه ضعفاء الناس، وهذه سُنَّة الأنبياء في الأرض، يؤمن بهم ضعفاء الناس وفقراءهم.
♦ وأن مَن يؤمن لا يرتدُّ بعد إيمانه، ذلك أن للإيمان حلاوة لا يَعرفها إلى مَن ذاقها، وولجَتْ قلبَه، فلا يرتدُّ عنها.
♦ وأن مِن أخلاق الرسول الأمانة وحفظ العهْد، فلا يَعرف الغدْر والخيانة، وهي من أخلاق الرُّسل، أما أخلاق الملوك وطلَّاب السُّلطة والمنصب فتحكُمهم اعتباراتُ المصلحة والسياسة، لا الأخلاق والهداية.
♦ أن ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هي دَعاوَى الرُّسل والأنبياء جميعًا، فهُم مِن مشكاة واحدة، يَعرفها مَن قرأ الدِّيانات السماوية، وطالَع كُتُبَها، فالتوحيد والأخلاق الحسَنة وصِلَة الرَّحم لم يختلف عليه أحد مِن المبعوثين مِن عند الله.
كانت البشارة التي قدَّمها هرقل:
♦ أن محمدا سيمتدُّ مُلكه حتى موطنِ قدميه هاتين، وهو ما تحقَّق بالفعل، سواء كان يَقصد بقدميه أرضَ إيلياء (بيت المقدس) بفلسطين[2]، أو يقصد مُلْكَه هو، وهذا ما تمَّ حيث سيطر المسلمون على مُعظم بلدان دولة الروم في الشام وشمال إفريقية، ثم فتحوا عاصمة مُلكهم الكُبرَى مدينة القسطنطينيَّة على يد محمد الفاتح.
♦ ( «ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ اِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ اِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلاَمِ، اَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64])) قَالَ أبو سفيان: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ وَأخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الاِسْلاَمَ» )[3].
فحين قرأ هرقل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت المعلومات لديه مكْتملة؛ مِن خلال حواره مع أبي سفيان، ونُلاحظ أن كتاب الرسول إلى هرقل كان يتضمَّن القيَم العُليا المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب من النصارى وهي: عبادة الله الواحد الأحد، دون أن يُعظِّم الناسُ بعضهم البعض. وقد اقتنع هرقل بأن محمدًا نبيٌّ، ولكنه خشي مِن قومه، وفضَّل أن يظلَّ في موضعه، وهذا ما أشار إليه الرسول في كتابه، فهو سيتحمَّل إثم قومه والشعوب التي يحكُمها، وهكذا الملوك، تكون حساباتهم دُنيوية، ويخضعون لِنُفوذ مَن حوْلهم.
على الجانب الآخر، فقد أدرَك أبو سفيان وهو راجحُ العقل، أنَّ مُلْك ابن أبي كبشة (إشارة إلى الرسول محمد) قد وَصَل شأوًا عظيمًا، ولكن الهداية من الله، ولم يزل الأمرُ في قلب أبي سفيان حتى أَسلَم عند فتْح مكة[4] مقتنعًا بعِظَم رسالة الإسلام التي حمَلَها نبيُّ الإسلام.
وهكذا كانت رؤى بعض المشركين وأحد الملوك مِن أهل الكتاب حول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشخصِه الكريم.
[1] راجع: زاد المعاد، ج1، ص21، ويستشهد بموقف أبي سفيان مع هرقل المذكور أعلاه. وانظر أيضًا: نور اليقين في سيرة سيِّد المرسلين، ص9، والسيرة النبوية لابن هشام، باب النَّسَب الزَّكيِّ للرسول.
[2] راجع: مُعجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، دار بيروت، 1376هـ، 1957م. رقم 167. وفيه إشارة إلى أن إيلياء اسم لامرأة بَنَتْ بيتَ المقدس، وقد ورد في الحديث الشريف: وروي عن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: ((لا تسمُّوا بيت المقدس إيلياء، ولكن سمُّوه باسمه؛ فإنَّ إيلياء امرأة بَنَتِ المدينة)).
[3] صحيح البخاري، ج1، كتاب بدء الوحي، رقم (7)، ص16- 18.
[4] نور اليقين في سيرة سيِّد المرسلين، ص 258.
Source link