منذ حوالي ساعة
ما نَمُرُّ به اليوم، وما نراه عِيانًا في بلاد الإسلام، وعلى وجه الخصوص أرض الشام، وفلسطين، وغزة، من ظُلمٍ وقهرٍ، وقتل وتشريد، وسفك للدماء، وجرائمَ ضجَّت لها البشرية بأكملها، كل ذلك ابتلاء وامتحان واختبار لهذه الأمة.
أيها المسلمون، عندما يلوح الظلام في الأُفُق، ويتأخَّر طلوع الفجر، عندها يظن العاجزون أن الشمس لن تُشرِق، وأن النهار لن يطلُع، وأن الصبح لن يتنفس، لكن هيهات أن يكون ليلٌ بدون فجر، أو ظلام بدون ضوء وشمس، هيهات أن ينتشر الظلام فلا نرى نورًا، أو يطول السواد فلا نرى إشراقًا.
أيها المؤمنون، تلك هي حال أُمَّتِنا، تغفو لكنها لا تنام، تمرَضُ لكنها لا تموت، تنقص لكنها لا تنتهي، تعجَز لكنها لا تنكسر.
لقد ظنَّ بعض الرَّعيل الأول من الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أن ضرباتِ قريشٍ الشديدةَ، وتعذيبهم الأليم للمسلمين سوف يكون عقبة في طريق الدعوة المحمدية.
لكن الحبيبَ محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين، أخبرهم خلاف ذلك؛ فقد روى البخاري من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: ((شَكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: يا رسول الله، ألَا تستنصر لنا؟ ألَا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيُجعل في تلك الحفرة، فيُجاء بالْمِنشار، فيُوضَع على رأسه فيُشَقُّ نصفين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعَظْمِهِ، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ووالله لَيَتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون».
أيها المؤمنون، لقد وصل هذا الدينُ، وبلغت هذه الدعوة ما بلغ الليل والنهار، ولقد أشرقت شمس هذا الدين على مشارق الأرض ومغاربها، وذلك بنصِّ حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين؛ فإنه قال: «ليبلُغَنَّ هذا الدين –أو قال: هذا الأمر– ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليل، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر».
أيها المؤمنون، ما نَمُرُّ به اليوم، وما نراه عِيانًا في بلاد الإسلام، وعلى وجه الخصوص أرض الشام، وفلسطين، وغزة، من ظُلمٍ وقهرٍ، وقتل وتشريد، وسفك للدماء، وجرائمَ ضجَّت لها البشرية بأكملها، كل ذلك ابتلاء وامتحان واختبار لهذه الأمة.
أيها المسلمون، أليس قد حُوصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطعة صغيرة من الأرض هو وأصحابه، في حصار الخندق أو غزوة الأحزاب، حتى كان الرجل يخاف أن يذهب لقضاء حاجته؟ معركة وحصار وَصَلَ الخوف فيه؛ إلى أن الله تعالى قال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11].
ثم ماذا حصل لتلك الأحزاب وتلك الجموع؟ لقد رجعوا بالخيبة والخسران، وانقطع ذكرهم إلا بالشر، وتلك ديارهم اليومَ يَلُوح فيها ويرتفع فيها صوت الأذان كلَّ يومٍ خمس مرات، تلك ديارهم شاهدة على أن الله ناصر دينه، إن ديارهم هي تلك التي تعتمرون وتحُجُّون إليها، إنها مكة المكرمة مهوى أفئدة المؤمنين.
أيها المسلمون، راجعوا واقرؤوا التاريخ جيدًا، اقرؤوا اجتياح المغول للعالم الإسلامي، فإنه لم يمرَّ على أُمَّةِ الإسلام بلاء مثله، لكن أين هم المغول اليوم؟ إنهم في مزبلة التاريخ، وبقِيَ الإسلام شامخًا، راياته عالية خفَّاقة.
أين الحملات الصليبية التي أذاقت المسلمين الويلاتِ، وقتلوا منهم الألوف؟ لقد تحطموا في معركة حطين، وكُسِرت شوكتهم بقيادة القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وبقِيَ الإسلام شامخًا.
أيها المسلمون، لنعلم علمَ اليقين أن الخير باقٍ في هذه الأُمَّة إلى قيام الساعة، فأبْشِرُوا ولا تيئسوا، واعملوا صالحا تُنصَروا: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 1 – 3].
أيها المسلمون، العاقبة للمتقين، أيها المسلمون، إن التمسك بالحق، واقتفاء السُّنَنِ، والوقوف عند الأوامر والنواهي، وتنويع القُرُبات، والإكثار من الباقيات والأعمال الصالحات، والبعد عن المحرَّمات والأعمال السيئات، إن كل ذلك لَهُوَ زادُ المؤمنين الصادقين، وزاد المصلحين المخلصين.
أيها المسلمون، وإن أمام هذه الأمة غاياتٍ بعيدةً، وبين أيديها ميادينَ طويلة، لا يفوز فيها ولا يُهدَى إلا أهل الصدق والإخلاص، وأهل الأعمال الصالحات، فإذا كان حالنا نحن أهل الإسلام ليس مرضيًّا، وخاصة في هذه العصور المتأخرة، فنرى أننا في تقصير وبُعْدٍ عما جاء به الإسلام ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، أليس كذلك أيها الناس؟ والاعتراف بالحق فضيلة، والإقرار بالخطأ منقبة جليلة، والسعي إلى التوبة مزِيَّة وفضيلة.
أيها الناس، كيف حالنا نحن مع الله تعالى في توحيده، وعبادته، والتسليم لشرعه ودينه، والعمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل نحن – يا عباد الله – خضعنا لشرع ربنا؟ وهل نحن أهلَ الإسلام مسلِّمون كاملَ التسليم لله تعالى ولرسوله؟ هل حكَّمنا فينا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل نحن – يا عباد الله – صادقون في أعمالنا وأقوالنا وأفعالنا، حتى نستحق النصر والتمكين، والغلبة على الأعداء؟ هل نحن – يا عباد الله – سائرون على خُطى من نُعلن صباحًا ومساءً، ونقول في كل يوم وليلة: “أشهد أن محمدًا رسول الله”؟ هل صَدَقْنا في اتباعنا وتسليمنا لِما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أيها المسلمون، نحن في تقصير عظيم نحو ديننا وإسلامنا، فكيف نرجو أن تكون العاقبة لنا نحن أهل الإسلام، ونحن في بُعْدٍ عن الله، وعن دينه، وعن شرعه، وعن متابعة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
أيها الناس، هل فتَّشنا عن أنفسنا وما حلَّ بنا من تقصير وضياع للواجبات والصلوات؟ وكم فينا ممن ضيَّع كثيرًا من أوامر هذا الدين، وواجباته، وآدابه، وأخلاقه؟
أيها المسلمون، بل الأدهى والأمَرُّ من ذلك أن الكثير منا نحن أهل الإسلام مَن تعدَّى على المحرَّمات والحُرُمات، وسكن في قلبه حبُّ الشُّبُهات والشهوات، وسارع بنظره إلى الحرام، وامتدت يداه إلى الممتلكات التي ليست له، وهكذا كذب في الحديث، وغشٌّ في البيع والشراء، وتحايُلٌ على حقوق العباد، وأكل للمال الحرام من ربًا ورشوة ومُكُوس.
فكيف ستكون العاقبة لنا ونحن في هذه الآثام، ونحن فينا هذه الثغرات، ونحن فينا هذه المخالفات؟
أيها الناس، أليس فينا من عطَّل وتعدى على شريعة الله، وأزاح هذا الدين أن يحكم في الأرض؟ أليس منا من ينشر الفساد بكل صوره وأشكاله؟ فكيف نرجو أن تكون العاقبة لنا؟ وهكذا نجد كذلك محاربة للخير، وتعديًا على الغير ظلمًا وعدوانًا، وترى وتشاهد كذلك الحرب المستَعِرة، والحرب الهمجية على مسلَّمات هذا الدين ومُحْكَماته، وعلى حَمَلَةِ الشرع المطهَّر؛ كتابِ الله تعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف نرجو أن تكون العاقبة لنا؟
أيها الناس، إن ما نراه ونشاهده اليوم على أرض غزة من تكالب أعداء هذا الدين من يهود ونصارى وسائر أعوانهم من الخونة والمنافقين، وسائر أعداء دين رب العالمين، وأعداء ما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، كل ما يجري هي حرب على الإسلام وأهله؛ حيث يريد أعداء الله إسكاتَ صوت الحق والعدل، ولكن أنَّى لهم ذلك، والله تعالى قد وعد – ووعده الصدق والحق – أن العاقبة للمتقين؟ قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وقال جل جلاله لموسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وقال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
عباد الله: إن ما جرى من تحقيق هذه السُّنَّة في الماضي سيجري مثله بإذن الله تعالى في الحاضر والمستقبل، إذا تحقَّقت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقون نصر الله تعالى؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجِبًا لنصرهم حيث وُجِدَ هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصَوا ونقضوا إيمانهم كيومِ أُحُدٍ، فإن الذنب كان لهم؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]”.
فنحن أهلَ الإسلام مطالبون بتقوى الله، والعمل بشرعه، والسَّير على هدى نبيِّه والعمل بسُنَّة خليله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمة المسلمة أن تثِقَ بنصر الله تعالى وتمكينه لعباده المؤمنين، إذا أخذت هذه الأمة بأسباب النصر والتمكين؛ من الصدق والإخلاص، والاستقامة على شرعه، والتضرع بين يديه ورجائه وحده سبحانه، والخوف منه وحده دون سواه، وغير ذلك من الأسباب المشروعة.
ألَا وصلوا وسلموا…
Source link