العز بن عبد السلام سلطان العلماء

منذ حوالي ساعة

كانت حياة الشيخ العز بن عبد السلام عبارة عن سلسلة متواصلة من الصدع بالحق، والثبات على الدين، والتصدي للباطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما جعل حياة الشيخ مقترنة بالمحن والابتلاءات والتهديدات الدائمة

العز بن عبد السلام السُّلَمي الدمشقي، أحد العلماء العاملين الأعلام، اشتُهر بشجاعته وصدعه بالحق، كما كان عالماً في علوم وفنون شتى، كالتفسير وعلوم القرآن، والحديث، والعقائد، والفقه وأصوله، والسيرة النبوية، والنحو والبلاغة، والسلوك والأحوال القلبية.

وله مؤلفات نافعة تشهد بأنه أحد العلماء الربانيين، وأحد الأفذاذ الذين اختارهم الله تعالى لتجديد فقه الشريعة، ومن أعظم ما كتب في مقاصد الشريعة وقواعدها كتابه الذي سارت بذكره الرُّكبان: (قواعد الأحكام).
والشيخ مغربي الأصل، شامي المولد، مصري الدار والوفاة.

اسمه وألقابه:
هو عبدُ العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمَّد بن مهذب السُّلَمِيُّ، الدمشقيُّ مولدًا، ثم المصريُّ دارًا ووفاة، الشافعيُّ مذهبًا، يُكْنَى بأبي محمَّد، ولُقِّبَ بعدَّة ألقاب، فلقبُه الاسميّ عزّ الدين، ولقبُه العلميّ والدّينيّ: الإمام العز، وشيخ الإسلام، ولقَّبه تلميذه ابنُ دقيق العيد: سلطانَ العلماء، واشتُهر به؛ لجرأته في الحقّ، وقوّة جَنانه، وجلاء بيانه، وعلوّ كعبه في العلم.

مولده ونشأته:
ولد العز (ذو الأصول المغربية فأحد أجداده جاء من المغرب واستقر بالشام) بمدينة دمشق سنة 577 هـ، كان أبوه فقيرا جدا، وكان العز يساعده في أعماله الشاقة كإصلاح الطرق وحمل الأمتعة.
توفي الأب، فذهب الطفل ليعمل في نظافة المسجد وحراسة نعال المصلين التي يتركونها خلفهم أمام باب المسجد وسمحوا له أن ينام في زاويته على الرخام.

كان الطفل وهو يقوم بأعماله الشاقة والمتعبة يصل إلى سمعه كلام الشيوخ في حلقات العلم والدرس التي كانت تعقد بالمسجد، وكان الطفل يرجو ويتمنى ويتلهف أن يكون أحد المستفيدين منها، بل كان يجلس فيها أحيانا لكن الطرد كان دائما في انتظاره، ولم يكن يسمع سوى كلمات التوبيخ والتقريع إذا ما اقترب.
 

وذات مساء شاهده أحد الشيوخ ويدعى الفخر ابن عساكر وهو صاحب حلقة علمية بالمسجد، رآه وهو يبكي فسأله ما يبكيك؟ فأخبره الخبر وروى له ما حصل فوعده الشيخ بأن يبدأ رحلة طلب العلم من الغد.

بالعلم يرتقي سلم المجد
أخذه الشيخ إلى مكتب ملحق بالمسجد وأوصى بأن يتعلم القراءة والكتابة والخط وأن يحفظ القرآن، وتعهد الشيخ بنفقة الصبي.
وأقبل العز على المكتب في شغف عظيم، وحفظ القرآن، وأتقن القراءة والكتابة والخط الحسن وعوض ما فاته من سنوات الدرس.
وكان كلما لقي شيخه على باب الجامع سأله الشيخ عن حاله، فيسمعه الصبي ما حفظ من القرآن، ويطلعه على ما يكتب في اللوح من الآيات الكريمة.
وأعجب الشيخ ابن عساكر بما يبدو على العز من مخايل النجابة والذكاء.
ومرت أعوام، واطمأن الشيخ فخر الدين بن عساكر إلى أن الصبي قد أتقن حفظ القرآن وجوده، وإلى أنه قد أصبح يحذق القراءة والكتابة بخط جميل، فبشره الشيخ بأنه سيضمه إلى الطلاب الذين يحضرون حلقته في الفقه الشافعي، ودفع إليه بما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور حلقات العلم.
 

وضمه الشيخ إلى حلقته، ونظم له حضور حلقات أخرى في اللغة وآدابها، وفي الحديث وأصول الفقه. ونصحه أن يتقن علوم اللغة من نحو وصرف، وأن يحفظ الشعر ويدرسه ليحسن فهم نصوص القرآن.

لزم العز شيخه ابن عساكر، وواصل الليل بالنهار في طلب العلم وبقي على هذا الحال حتى أصبح من كبار العلماء في المذهب الشافعي، ثم عكف على دراسة الحديث الشريف وغيره من العلوم، ثم رحل إلى بغداد، ليعود إلى دمشق وقد صار عالما إماما متبحرا في مختلف علوم الشريعة.

العز خطيبا في الجامع الأموي
عندما توفى خطيب الجامع الأموي في دمشق ‘الخطيب الدولعي’ تولى مكانه العز بن عبد السلام الخطابة والتدريس حيث عينه والي دمشق إماما للجامع الأموي الكبير، لكن العز اشترط عليه أن يطلق يده بالإصلاح، فوافق الوالي وتصدر الإمام للإفتاء والقضاء والخطابة.
كان العز (رحمه الله) خطيبا بارعا يؤثر في مستمعيه بصدق عاطفته، وغزارة علمه، وسلاسة أسلوبه، ووضوح أفكاره، وقد عُرف عنه أنه كان لا يسكت عن خطأ، كما كان قوالا للحق لا يخاف في الله لومة لائم، وقد كانت مواقفه تسبب له مضايقات كثيرة، لكنه لم يكن يهتم بها لأنه كان يرى أن ذلك يدخل في إطار مهمته ورسالته التي أنيطت به كعالم.

صدعه بالحق وتصديه للباطل:
كانت حياة الشيخ العز بن عبد السلام عبارة عن سلسلة متواصلة من الصدع بالحق، والثبات على الدين، والتصدي للباطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما جعل حياة الشيخ مقترنة بالمحن والابتلاءات والتهديدات الدائمة، ومع ذلك لم يهادن ولم يداهن، ولم يتراجع، بل ثبات حتى الممات، لذلك استحق لقب سلطان العلماء.

موقفه مع الملك الصالح إسماعيل الأيوبي:
تحالف الصالح إسماعيل الأيوبي حاكم دمشق مع الصليبيين لقتال أخيه نجم الدين أيوب حاكم مصر، وكان من شروط هذا التحالف أن يعطي لهم مدينتي صيدا وقلعة الشقيف وبعض المدن، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر.

فأفتى العز – رحمه الله – تجار دمشق بأن بيع السلاح إلى الصليبيين لا يجوز لأن من يبيعهم السلاح يعلم أنهم سوف يصوبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.
ووقف على منبره في خطبة الجمعة وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين وقطع الدعاء له في الخطبة بعدما كان اعتاد أن يدعو له وختم الخطبة بقوله: “اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر”. ثم نزل.

فغضب الملك الصالح إسماعيل غضبا شديدا وأمر بإبعاده عن الخطابة وسجنه وبعدما حصل الهرج والمرج
واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك.

فقرر العز بعد ذلك الهجرة إلى مصر فخرج الشيخ ومعه أبو عمرو بن الحاجب شيخ المالكية.

وصوله إلى مصر:
وصل العزّ بن عبد السلام إلى مصر سنة 639هـ، وقد سبقته شهرته العلمية ومواقفه العظيمة، فاستقبله سلطانها نجم الدين أيوب وأكرمه وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلّده القضاء في مصر، والتف حوله علماء مصر وعرفوا قدره، وبالغوا في احترامه.. فامتنع عالم مصر الجليل الشيخ زكي الدين المنذري عن الإفتاء بحضوره احتراماً له وتقديراً لعلمه.

بائع الملوك:
وكان من أول ما لاحظه العزّ بعد توليه القضاء الأمراء المماليك، فرأى أن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، فعظم الخطب، واحتدم الأمر، فامتنع أن يمضى لهم بيعاً أو شراء لأنهم ليسوا أحرارا، وبالتالي لا تصلح ولايتهم ولا تقبل تصرفاتهم مالم يحرروا فأخبرهم بذلك فتألّبوا عليه وشكوه إلى الملك الصالح الذى لم تعجبه فتوى العزّ، فأمره أن يعْدل عن فتواه، فلم يأتمر بأمره، بل طلب من الملك ألا يتدخل في القضاء إذ هو ليس من شأن السلطان، وأدّى به إنكاره لتدخّل السلطان في القضاء أن قام فجمع أمتعته ووضعها على حماره ثم قال: «ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها» إشارة منه إلى الآية القرآنية.
ويرْوى أنّه تجمّع أهل مصر حوله، واستعدّ العلماء والصلحاء للرحيل معه، فخرج الملك الصالح يترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الشرع، فاقترح العزّ على الأمراء المماليك أن يعقد لهم مجلساً وينادى عليهم (بالبيع) لبيت مال المسلمين وعندما نصحه أحد أبنائه بأن لا يتعرّض للأمراء خشية بطشهم، فقد عزموا على قتله، فردّ عليه بقوله: (أأبوك أقلّ من أن يُقتل في سبيل الله؟).
فسلمه الله وأذعنوا لذلك وتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير.

وفاته:
تُوفِّي سلطانُ العلماء قبيل عصر يوم السبت، من يوم التاسع من جُمادى الأولى سنة (660 هـ) عن عمر ناهز 83 سنة، بالمدرسة الصالحيَّة في القاهرة، ودُفن في غد اليوم التالي في القَرَافة بسفح جبل المقطَّم، وقد شهد جنازته ملك مصر والشام الظاهر بيبرس وأجناده، وشهد جنازته خلقٌ كثير من الناس.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح( الدعاء حينمـا يقع ما لا يرضاه أو غلب على أمره )

منذ حوالي ساعة المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *