الثقة بالله والاعتماد عليه من أعظم الأعمال وأرفع الدرجات، فهي ليست مجرد كلمات تقال، وإنما عقيدة في القلب تنبثق عنها قوة الصبر والثبات في مواجهة التحديات والابتلاءات.
الثقة بالله والاعتماد عليه من أعظم الأعمال وأرفع الدرجات، فهي ليست مجرد كلمات تقال، وإنما عقيدة في القلب تنبثق عنها قوة الصبر والثبات في مواجهة التحديات والابتلاءات.
نعيش في دنيا مليئة بالتقلبات والصعاب، فتأتي علينا أوقات نحس فيها بالضيق، وتمر بنا ظروف نرى فيها الأمور وقد ضاقت، ولكن المؤمن الواثق بربه يعلم أن وراء كل ضيق فرجًا، وبعد كل عسر يسرًا؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ﴾ [الطلاق: 3]، ويقول: ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 6].
وفي هذه الخطبة، نتحدث عن الثقة بالله في مواجهة التحديات، وكيف نثبت أمام الصعاب ونعتمد على الله سبحانه وتعالى، فنجد فيه القوة والأمل، وننطلق نحو الحياة بنفسٍ مطمئنةٍ، قلوبنا موقنة بأن الله معنا أينما كنا.
عباد الله، ثقة المؤمن في الله قوة لا تُهزم: لما خوّف قوم هود هودًا بآلهتهم التي لا تضر ولا تنفع تبرَّأ منهم ومن شركهم، وقابل تهديدهم بتحديهم، ولم يكن له سلاح ولا قوة إلا التوكل على الله تعالى، قال لهم: ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ [هود: 55، 56].
توكل وثبات أمام الصعاب: مكث نوح في قومه قرونًا تباعًا يدعوهم، فقابلوه بالسخرية، وناصبوه العداوة، وكادوا به كيدًا عظيمًا، ومكروا مكرًا كبارًا، فما قابل كيدهم ومكرهم وجمعهم بغير التوكل على الله تعالى، وهم أمة وهو واحد، فقال لهم: ﴿ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، يا لها من ثقة بالله عظيمة، واعتماد عليه وحده لا شريك له، لم يهب جمعهم، ولم يخش كيدهم، ولم يترك دعوتهم.
إبراهيم الخليل -عليه السلام- أرادوا به كيدًا، فاستخدم سلاح التوكل، فأبطل الله كيدهم؛ قال عليه السلام داعيًا ربه عز وجل: ﴿ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [الممتحنة: 4]. ولما ألقوه في النار ظهرت حقيقة توكله بقوله: “حسبي الله”، فكانت النتيجة آية باهرة، ومعجزة ظاهرة: ﴿ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 69، 70]، فمن ذا الذي يخاف كيد الكافرين وقوتهم، وكيد المنافقين ومكرهم بعد هذه الآيات البينات في توكل الخليل ونجاته، خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه، فقال لهم: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: ٨١-٨٢].
شعيب عليه السلام واجه قومه بثقته بربه أمام تلك التحديات، فقال عليه السلام: ﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [الأعراف: 89]، وقال أيضًا: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].
عباد الله، هل هناك أعظم من الطاغية فرعون الذي بلغ به الحد أنه ادَّعَى الربوبية، وقتل الأبناء، وعذَّب الأولياء الصالحين، فحتى ينجوا من هذه المحنة العظيمة دلَّهم موسى عليه السلام لأعظم سلاح يتسلَّحون به لمواجهة التحديات، إنه سلاح التوكل على الله، قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 84 – 86]، فكانت عاقبة توكُّلهم على الله تعالى أن نجَّاهم وأهلك أعداءهم.
وحين يقرأ المؤمن سير الأنبياء في القرآن الكريم يجد أن التوكُّل على الله تعالى هو حصنهم في مقابلة الشدائد، وهو أمضى سلاح واجهوا به المكذبين من أقوامهم؛ ولذا أعلنوا جميعًا توكلهم على الله تعالى، وقالوا مستنكرين على المشركين: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، أما بعد:
فيا عباد الله، ولما ألمت بيعقوب عليه السلام الملمَّات، واجتمعت عليه الكربات، وتكالبت الهموم، وتوالت الغموم؛ قال بحزم وعزم، ويقين وتصديق: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف: 67]. فأزال الله تعالى همَّه، وكشف كربه، وردَّ عليه بصره، وأرجع له ولده، ورفع مقامه، وأعلى ذكره، فها نحن بعد قرون من زمنه نتلو قصته، ونذكر صبره وتوكُّله.
وأما نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمره الله تعالى بالتوكل في كثير من الآيات: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]، ما أعظمه من أمر رباني بالتوكل! قد علَّل بأن المتوكِّل عليه حي لا يموت، فكم من بشر توكلوا على بشر مثلهم فماتوا! توكل ملأ فرعون وجنده على فرعون وقوته فغرق أمامهم، وتوكل موسى والمؤمنون معه على الحي الذي لا يموت فنجَّاهم، وتوكَّل ملأ من الناس في عصرنا على زعماء كانوا يملكون من السلطة والبطش والقوة ما ظن معه الأتباع أنهم يخلدون، فأزيحوا من عروشهم أذلة صاغرين، فمنهم من قتل أمام ملئه، ومنهم من حبس، ومنهم من هرب، وإن شاء الله تبارك وتعالى نهاية اليهود والمنافقين المتآمرين على فلسطين قريبة بإذن الله؛ لأن إخواننا استخدموا سلاح التوكل على الله والثقة به، فلن يضيعهم، والنصر حليفهم بإذن الله تعالى.
وموافقة لآية التوكل على الحي الذي لا يموت كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: “اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ”؛ رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما.
__________________________________________
الكاتب: ياسر عبدالله محمد الحوري
Source link