لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، من ذلك: طليعة من الرجال تتجافى جنوبهم عن علائق الدنيا، سباقون إلى معالي الأمور، ملتزمون بما يحبه الله تعالى ويرضاه
عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: تمنوا. فقال بعضهم: أتمنى لو أنَّ هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله وأتصدق. وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجداً وجوهراً فأنفقه في سبيل الله وأتصدق. ثم قال عمر: تمنوا. فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان[1].
هذا الأثر الكريم يشير إلى حجم المعاناة التي كان يعانيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يجهد نفسه، ويصل ليله بنهاره من أجل تحقيق طموحه وأهدافه، فقد كانت له فكرته التعليمية وفكرته الاقتصادية وفكرته الجهادية وفكرته الاجتماعية، والتي سعى إلى ترجمتها عملياً في أرض الواقع؛ لكنه لم يزل بحاجة إلى المزيد من الرجال.. الرجال الذين يحققون الهدف ويصلون إلى الطموح برغم المعاناة والآلام، وبرغم المصاعب والعقبات.
عزيمة جادة:
أول وصف يمكن به وصف هؤلاء الرجال الذين تمنى عمر بن الخطاب امتلاء الدار بهم: أنهم أصحاب عزيمة، ملتزمون بجادة الطريق، لا يحيدون عنها، ولو طال بهم الزمن، تتجه بوصلتهم نحو معالي الأمور وأفضلها وخيرها، ولا يرون في الرُّخص والمباحات إلا استثناء يقدَّر بقدره، فضلاً عن أنه لا يجوز أنْ تشغلهم عن العزائم فهي الأصل والقاعدة.
في عرضه لمسائل العزائم والرخص، وحين أتى على إطلاقات الرخص ومعانيها؛ ذكر العلامة الشاطبي رحمه الله تعالى منها هذا المعنى: «ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقاً، وما هو راجعٌ إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم». وذلك مبني على أن العزيمة هي ما ورد في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالعزيمة هنا هي «امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم، كانت الأوامر وجوباً أو ندباً، والنواهي كراهة أو تحريماً، وترك كل ما يُشغِل عن ذلك من المباحات، فضلاً عن غيرها. فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفاً وتوسعة على المكلف؛ فالعزائم حق الله على العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله؛ فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب».
ثم بين رحمه الله تعالى أن هذا المعنى هو النموذج في تربية النفوس، فقال: «هذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال، ويعتبره أيضاً غيرهم ممن رقي عن الأحوال، وعليه يربون التلاميذ، ألا ترى أنَّ مِن مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم واجتناب الرخص جملة، حتى آل بهم الحال أنْ عدُّوا أصلَ الحاجيات كلها أو جلها من الرخص؛ وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها»[2]. فالشاطبي يذكر أن التربية على التزام العزائم هو المقرر لدى أهل التربية الأوائل.
وقد تحدث القرآن عن مشاهد من عزيمة الرجال في تعبدهم وتألههم واهتمامهم بذلك، قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ 36 رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، قال ابن كثير رحمه الله: «فقوله: {رِجَالٌ} فيه إشعارٌ بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عماراً للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه»[3]. وفي موضع آخر قال الله تعالى: {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ 15 تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 15، 16].
ولأهمية هذا المعنى في تربية رجال العزائم جاء الأمر الرباني بفرض قيام الليل فترة من الزمن، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا 2 نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 4 إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5 إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: ١ – ٦]، فكانت نفوس المؤمنين بعدها أقوى عزيمة وأمضاها.
يا رجالَ الليل جِـــــــــدُّوا ** رُبَّ صوتٍ لا يُــــــــرَدُّ
لا يقـوم الليــــــــــــــلَ إلا ** مَنْ لـــــه عــزمٌ وجـِـدُّ
في حقيقة الأمر أنَّ تجافي جنوبهم عن المضاجع تعبير عن شعورٍ داخلي تجاه كل ما من شأنه أنْ يقعد بهم عن الجادة ويعوقهم عن المعالي، شعور القلق، أو قل: إنهم متجافون عن العلائق ذات الحُسن والجمال، ولذلك لا تلهيهم التجارة والبيع عن ذكر الله، ولا يرضخون لوطأة الفراش الوثير فتفوتهم الفضائل، ولا تشغلهم المباحات عن العزائم ومعالي الأمور.
ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، من ذلك: طليعة من الرجال تتجافى جنوبهم عن علائق الدنيا، سباقون إلى معالي الأمور، ملتزمون بما يحبه الله تعالى ويرضاه؛ ولو كان فيه مشقة عليهم، ولو كان ذلك على حساب محبوباتهم مما أباح الله تعالى. هؤلاء هم الأقوياء الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»[4]. وقد شرح النووي رحمه الله تعالى القوة هنا، فقال: «عزيمة النفس، والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ومحافظة عليها ونحو ذلك»[5].
وجدانٌ متوقِّد:
ثاني وصف لهؤلاء الرجال هو ذلك الوجدان المتوقد وتلك المشاعر الملتهبة، حرقة على دين الله تعالى واهتماماً بدعوته، وذلك الوجدان لا يقبع إلا في نفسِ مَنْ آمن بدعوته ورسالته، وجعلهما محور حياته، بهما يصبح ويمسي، وعليهما ينام ويستيقظ، فإذا أمسكَتْ دعوتُه بتلابيب قلبه فإنه حينها يحمل ذلك الوجدان العظيم.
فهو يشعر بالخطر على دعوته حين يتراخى في القيام بواجباتها، فتراه دائم الفكرة فيها، تعرِض له في كل شأنٍ من حياته، قال أبو شامة: «بلغني من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قُرئ عليه جزءٌ من حديثٍ كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديثٌ مسلسلٌ بالتبسم، فطلب منه بعضُ طلبة الحديث أنْ يبتسم لتتم السلسلة على ما عُرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج»[6].
وهو يملك زمام وجدانه، فلا يجزع عند حلول المحن فيتوارى عن الصف، ولا تخور قواه عند سقوط الرايات فيفضِّل الانسحاب، قال الله تعالى: {وَلَـمَّا رَأَى الْـمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا 22 مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 22، 23]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «أيْ هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب. وما زادهم ذلك الحال والضيق والشدة إلا إيماناً بالله، وتسليماً أي: انقياداً لأوامره، وطاعة لرسوله»[7].
وهو قوي النفس أمام غرائزه فلا يقدمها على دعوته، قعد أبو خيثمة رضي الله عنه عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فدخل على امرأتين له في يومٍ حار، فوجدهما في عريشين لهما في حائطه، قد رشَّت كل واحدة منهما عريشها، وبرَّدتْ له ماءً، وهيأت له طعاماً؛ فقال: «سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضَحِّ والريح والحر، يحمل سلاحه على عنقه وأبو خيثمة في ظِلالٍ باردة وطعامٍ مهيأ وامرأتين حسناوين! ما هذا بالنَّصف، والله لا أدخل عريش واحدةٍ منكما ولا أكلمكما حتى ألحق برسول الله». فخرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له[8]. إنَّ الرجل حق الرجل من يستطيع التغلب على غرائزه فيؤجل شهواته إلى ما بعد واجباته، ولا يستسلم للراحة إلا بعد أخذ حظه من النصب والتعب.
بَصُرتُ بالراحـة الكبرى فلمْ ترَها
تُنـــالُ إلا على جسرٍ من التعب
ولا سبيل إلى وجود هؤلاء الرجال إلا بتربية طليعة منهم بتهذيب غرائزهم وغرس همِّ الدعوة فيهم وتنمية حس المسؤولية في نفوسهم.
بصيرة نافذة:
ثالث وصف لهؤلاء الرجال هو وعيهم الناضج وتفكيرهم السديد، فلديهم من البصيرة الشرعية ما يجعلهم قادرين على تكييف الأحوال والمسائل والنوازل تكييفاً شرعياً، بفضل ما تعلموه من المسائل والأبواب، وما تمرسوا عليه من تخريج الفروع على الأصول وضبط القواعد والضوابط الفقهية، وفهم المقاصد الشرعية.. البصيرة التي أفضت بحذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنْ يقدم نصيحته إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بعمل ما يلزم حيال اختلاف القراء في ثغور الجهاد، قال أنس رضي الله عنه: قدم حذيفة بن اليمان على عثمان؛ وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزعَ حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أنْ يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. فأرسلتْ بها حفصةُ إلى عثمان… إلى آخر قصة الجمع المعروفة[9].
ولديهم من البصيرة بالواقع ومعرفة ما يجري حولهم ما يدركون به كنهه وأسراره، فليسوا دراويش لا يفقون شيئاً مما يدور حولهم، ولا ببغاوات لا يدرون ما يقولون وما يسمعون، وليسوا ممن يتأثر بالشاشات والدعايات، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فقال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ على فقرائهم، فإنْ هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب»[10].
ولديهم من البصيرة بمخططات الأعداء من المستعمرين وأذنابهم وأبواقهم ما يجعلهم على بينة من الأمر وشعورٍ دائم بالخطر إنْ هم تهاونوا في القيام بواجبهم تجاه ذلك، قال الله تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ} [الأنعام: ٥٥].
ثم هم أثناء ذلك وبعده يُعملون آلة التفكير إعمالاً جيداً، فيخرجون بأفضل النتائج وأفضل الأفكار وأصح الاستنتاجات وأصدق التنبؤات.
يقول البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى: «إننا لا نكون مسلمين حقاً، ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوش المغيرة علينا وعلى ديننا، تارة باسم العلم، وتارة باسم الخير والإحسان، وأخرى باسم الرحمة بالإنسان، إلا إذا علمنا ما يراد بنا، وفقهنا الغايات لهذه الغارات، وتحديناها بجميع قوانا المعنوية والمادية، وحشدها في ميدان واحد، هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية، ولا يتم لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله، وإلى دينه الإسلام، على أساس قوي من أحجار العالم الرباني، والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه، والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله، والغني المستهين بماله في سبيل دينه، ثم وجهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضال قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين، وأرجعتهم إلى ربهم، فاتصلوا به، فتمسكوا بكتابه وهدي نبيه، وتمجدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه، كنا قلدناهم سلاحاً لا يفل، وأسبغنا عليهم حصانة روحية، لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة، وحصانة أخرى مادية ملازمة لها، لا تهزمها الجموع المجمعة، ولو كان بعضها لبعض ظهيراً»[11].
لقد بات مُلحاً أنْ يكون من مخرجاتنا التربوية: المعلم المثقف، والداعية المثقف، والعالم المثقف.
إقدامٌ جريء
رابع وصف لهؤلاء الرجال أنهم طليعة من الشجعان، تربوا على روح المغامرة والإقدام، لا يحبون التردد، لا يخافون الأهوال والمخاطر، ولا يمنعهم الخوف من الإخفاق أنْ يغامروا ويُقدموا.
لقد تحدث القرآن عن معاذير الخائفين على دنياهم من الإقدام في عدد من السور كآل عمران والتوبة والأحزاب والفتح، وعقَّب عليها بالتوبيخ الشديد، إذ ليس من صفات المؤمنين الصادقين أنْ يخافوا على دنياهم من تحملهم لمسؤولية دينهم، قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].
إن الخائفين والمترددين والمتعطشة قلوبهم لزخرف الدنيا لن يقدموا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل دعوتهم وإيمانهم، بل سيظلون منشغلين بإعمار دنياهم وإنْ قالوا: إننا رجال. حكى الله عن قومٍ قولهم: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح: ١١]، وإلى الله أشكو حالي وحال إخواني.
وإن الأمة اليوم بحاجة إلى تربية تخرج الشجعان والمقاديم، الذين يبادرون ويتقدمون الصفوف في الدعوة إلى الله وحمل رسالة الإسلام.
والإقدام والمغامرة لا يعنيان المجازفة، وإنما هما المضبوطان بدراسة ميدانية ومشورة جماعية، قال الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: ٤].
فإذا أردنا تربية الرجال، الذين كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمنى توافرهم، ممن لديهم العزائم الجادة والمشاعر الملتهبة والبصائر النافذة والإقدام الجريء؛ فعلينا أنْ نرسم الأهداف الصحيحة لهذا المشروع العظيم، وأنْ نصنع المحتوى المناسب لهذه الأهداف، وأنْ نهيئ المحضن المحفز للنجاح في مشروع عملاقٍ كهذا؛ يقوم عليه مربون مدركون لحقيقة ما يعملون، وإنها لمهمة عظيمة تضطلع بها التربية الإسلامية اليوم، إذْ يقوم على أكتاف هؤلاء الرجال القادمون صناعة مستقبلٍ مشرق لهذا الدين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْـحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْـحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: ٤١]. وإنَّ رجالاً عظماء لا يمكن أنْ يتخرجوا إلا في محاضن تربوية عظيمة، ولو كانت قليلة.
[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (3/252) كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر مناقب سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه (ح5005).
[2] الموافقات 1/472 وما بعدها، بتصرف.
[3] التفسير 6/67.
[4] أخرجه مسلم 4/2052 كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز… ح2664.
[5] شرح النووي 16/431.
[6] الروضتين في أخبار الدولتين 2/143.
[7] التفسير 6/392.
[8] انظر: الطبقات لابن سعد 4/371.
[9] أخرجه البخاري 3/338، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن ح4987.
[10] أخرجه الترمذي 3/21، كتاب الزكاة، باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة ح625.
[11] آثار الإمام 4/286.
_________________________________________
الكاتب: فايز بن سعيد الزهراني
Source link