منذ حوالي ساعة
ومن هنا فإن مستقبل الدور الإيراني في سوريا بل في المنطقة كلها مرهون بما ستسمح لها به الولايات المتحدة وإسرائيل بجانب حقيقة موقف سوريا الجديدة وبقية قوى أهل السنة
في الحلقة الأولى من هذا التحليل عرضنا لتحليل الذي حدث فعلا في سوريا والذي تكلل -بفضل الله- بيوم 8 ديسمبر الذي شهد تحرير سوريا من نظام الطاغية بشار وطغمته المجرمة الحاكمة، وفي هذه الحلقة وما بعدها نحلل أثر تحرير سوريا على كافة المعادلات السياسية والاستراتيجية في إقليم المشرق العربي -إن شاء الله-.
إقليم المشرق العربي أم الشرق الأوسط
بداية نوضح مفهوم “إقليم المشرق العربي” حيث أن المنظومة الصهيوصليبية المهيمنة على العالم دأبت على تسمية منطقة المشرق العربي باسم “الشرق الأوسط” بحذف “العربي” كي تثبت فيه دولة الكيان الصهيوني، لأن وصفه بالعربي لا يحذف منه تركيا وإيران لأنهما دولتان مسلمتان، وإسلامهما يجعلانهما منتميتان للحضارة والثقافة العربية لأنه لا يوجد مسلم في العالم إلا ويقرأ القرآن ويحفظ سطورا منه عن ظهر قلب وذلك كله باللغة العربية، كما يصلي الصلواة الخمس يوميا باللغة العربية، لكن صفة العروبة تستبعد قطعا دولة الكيان من مشروعية وجودها بالمنطقة لعدم انتمائها لحضارة العروبة والإسلام ثقافيا وتاريخيا.
ولذلك نختار في كتاباتنا مصطلح “إقليم المشرق العربي” على مصطلح “الشرق الأوسط”، أما مفاهيم “الإقليم العربي” و “دول الخليج العربي” و “دول المغرب العربي” فللحديث عنها مناسبة أخرى إن شاء الله.
المعادلات الإقليمية سياسيا واستراتيجيا
إن المعادلات الإقليمية في “المشرق العربي” سياسيا واستراتيجيا ارتكزت في السنوات الأخيرة على عدة محاور إقليمية ودولية فإقليميا وجدنا التالي:
-المحور الإيراني.
-المحور التركي.
-المحور الإسرائيلي.
-محور الاعتدال العربي.
-محور المعارضات العربية.
وأما المحاور الدولية ذات الصلة بإقليم الشرق الأوسط فهي:
-المحور الأمريكي والأوروبي تابع ومشارك لأمريكا.
-المحور الروسي.
-المحور الصيني.
-المحور الهندي.
وفي السطور التالية نعرض لتفاصيل واقع كل محور والتغيرات أو التطورات التي ستطرأ عليه نتيجة تحرير سوريا من نظام طغاة البعث العلوي و تولي قوى شعبية للحكم في سوريا.
المحور الإيراني
سعت إيران منذ نشأة النظام الشيعي الديني الحاكم الحالي (أواخر 1979) إلى بسط هيمنتها السياسية على المنطقة، وبسط نفوذها في أغلب انحاء العالم، ونشر التشيع بين أهل السنة في العالم كله وخاصة في العالم العربي وأفريقيا وأسيا، وتغيرت شعارات إيران المعلنة حول هذه الأهداف من مرحلة زمنية لأخرى، ولكن ظلت هذه الأهداف ثابتة في جوهرها منذ ثورة الخميني 1979 وحتى اليوم، ولكن هذه الأهداف ليست هي المحدد الوحيد في السياسة الخارجية الإيرانية، لأن القدرة الإيرانية المجردة يستحيل أن تمكنها من تنفيذ هذه الأهداف.
4 محددات مهمة للسياسة الخارجية الإيرانية
ولذلك كله فهناك أربعة محددات أخرى مركزية في تحقيق الإنجاز في سياسة إيران الخارجية وهي:
المحدد الأول-رفع شعارات براقة جذابة لكل العرب مسلمين وغير مسلمين والادعاء بأنها تمثل أهداف سياستها الخارجية وأهم هذه الشعارات هو شعارات مناهضة الولايات المتحدة وإسرائيل والتصدي لظلمهما والسعي لتحرير فلسطين والمسجد الأقصى.
المحدد الثاني-السعي في السر والعلن لعقد صفقات سياسية مع الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية في المنطقة العربية تحت مسمى “تحالف الأقليات” وذلك بزعم أن أهل السنة العرب يحكمون الدول العربية باستبداد ويقمعون أي أقلية دينية أو مذهبية أو عرقية وأنه يجب على الأقليات الدينية (مسيحيين بكل طوائفهم) والمذهبية (شيعة وعلوية ودروز وزيدية وخوارج..الخ) والعرقية (كرد وغيرهم..الخ) أن يتحالفوا ضد العرب السنة الذين هم الأغلبية.
المحدد الثالث-السعي في الخفاء لعقد صفقات سياسية مع المنظومة الصهيوصليبية المهيمنة على العالم من أجل أن تسمح لإيران بتحقيق أهداف سياستها الخارجية أو أجزاء منها، ورغم أن أغلب هذه الصفقات مازالت طي الكتمان وإن ظهرت آثارها إلا أن هناك العديد من هذه الصفقات انكشف أمرها ومن أبرزها التالي على سبيل المثال:
* تواصلت قيادة الثورة الإيرانية سرا مع حملة المرشح الرئاسي الأمريكي رونالد ريجان (1981) لتأخير الافراج عن الرهائن الأمريكيين المحتجزين في سفارة الولايات المتحدة في طهران لما بعد التصويت في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وذلك لإضعاف فرص الرئيس الامريكي الديمقراطي جيمي كارتر في الفوز بفترة رئاسية ثانية، وتعزيز فرص مرشح الحزب الجمهوري ريجان في الفوز بالرئاسة ثم الافراج عن الرهائن بعد فوز ريجان لتعزيز شعبيته، وقد تم هذا ولم تنكشف الصفقة غير بعدها بسنوات عديدة وطبعا كان هناك ثمنا سياسيا أمريكيا تم دفعه لإيران.
* في 1985 عقدت قيادة إيران اتفاقا سريا مع الولايات المتحدة تحت اشراف جورج بوش الأب الذي كان وقتها نائب الرئيس ريجان، يقضي بتزويد ايران سرا بآلاف الصواريخ تاو المضادة للدروع وهوك المضادة للطيران، مقابل الافراج عن خمسة رهائن من لبنان وشحنت الصواريخ الى إيران عبر عدة دول منها إسرائيل وشارك في تنفيذها الموساد وخصصت عوائد الصفقة لتمويل جبهة الكونترا التي كانت تساندها الـCIA لاسقاط النظام الماركسي الحاكم في نيكارجوا، واشتهرت هذه الصفقة بعد افتضاحها في السنوات التالية باسم فضيحة (ايران/كونترا) لأن القوانين الأمريكية وقتها كانت تمنع بيع السلاح لإيران وتمنع تمويل جبهة الكونترا.
* إبان حكم أوباما (2009-2017) أجرى مفاوضات عديدة مع ايران وانتهت ظاهريا بالاتفاق النووي المشهور بين القوى الدولية وإيران والذي بدأ تطبيقه في 2016، ولكن صحب ذلك عمليا اطلاق يد التمدد الإيراني في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، والذي صارت نتائجه واضحة للعيان منذ الفترة الأولى لحكم أوباما وحتى عشية 7 أكتوبر 2023.
المحدد الرابع-حماية النظام الدولي الصهيوصليبي لوجود إيران كقوة مؤثرة في إقليم المشرق العربي لاستنزاف قدرات قوى المسلمين أهل السنة وتخويفهم ووضع قيود عليهم بل وضربهم بإيران الشيعية عند الحاجة لذلك، وهناك عدة دلائل لهذا منها:
* اثبات الوثائق السرية للخارجية البريطانية أن بريطانيا هي من ساعدت شاه إيران على الاستحواذ على الجزر الإماراتية الثلاث من أجل زيادة قوة وهيمنة إيران في المنطقة.
* اثبات الوثائق السرية للخارجية البريطانية أن بريطانيا هي من منعت تنفيذ خطة أمريكية لتدمير نظام الخميني عسكريا في الثمانينات من القرن العشرين قائلة لأمريكا: إن إيران مهمة للاستراتيجية الغربية في المنطقة.
* ويمكن للكل تخيل ما الذي كان يمكن أن يحدث لقوة سنية مثل تركيا أو مصر لو أنها أطلقت مئات الصواريخ والمسيرات ضد إسرائيل وبجانب ذلك سلحت قوات مقاتلة ضد إسرائيل بآلاف الصواريخ والمسيرات (كما فعلت ايران مع الحوثيين وحزب الله والمليشيات العراقية) ما الذي كان يمكن أن يحدث لأي من الدولتين لو انها فعلت هذا؟
ومن لا يعرف الإجابة أو يشك بها فلينظر ما الذي حدث لعراق صدام لمجرد أنه أطلق أقل من عشرة صواريخ ذات رؤوس تدميرية مخففة ضد إسرائيل.
مستقبل المشروع الإيراني في المنطقة
ومن هنا فالمشروع الإيراني تمدد في المنطقة بسبب هذه المحددات البارزة التي ارتكز عليها، ولكن الصراع الذي اندلع في المنطقة بسبب “طوفان الأقصى” وما تلاه من أحداث أخذ يهز بعض هذه المحددات ويخفض من أوزان بعضها، وهو ما أوضحنا تفصيله في الحلقة الأولى من هذه المقالات من حيث منع أميركا وإسرائيل حماية التمدد الإيراني في سوريا بجانب وضع قيود على تمدده في لبنان، ومن الواضح أن أميركا وإسرائيل كانت تطمح أن يقاوم بشار قوات الثورة لبعض الوقت حتى تستنزف قوة روسيا وايران وثوار سوريا وتركيا داخل سوريا بحربهم بعضهم البعض لفترة تطول، لكن نجاح الثوار بأسبوع وانهيار بشار فاجأ أمريكا وإسرائيل والغرب كله، كما أن إيران وروسيا انسحبا بسرعة خشية استنزاف تتلوه هزيمة محققة.
وهذا كله يوضح لنا عدة أمور أبرزها أن إيران رغم شعاراتها العنترية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل فإنها لا يمكنها أن تتمدد أو تدعي الهيمنة والقوة إلا بحبل من الولايات المتحدة والناتو، فلولا الاحتلال الأمريكي للعراق وإعطائها الضوء الأخضر لما مدت نفوذها إليها وهيمنت عليها ولولا الضوء الأخضر الأمريكي والإسرائيلي لها في سوريا لمساندة بشار الأسد لما هيمنت على سوريا منذ 2011 وحتى ديسمبر 2024 ..الخ، ونفس الشيء يقال عن اليمن بكل تفصيلاتها فقد كان الطيران الامريكي يدك مقاتلي القاعدة في اليمن بكل مكان بلا سبب، وفي نفس الوقت يشاهد -بصمت يصرخ بالعهر- ميليشيات الحوثي وهي تنتهك حرمات كل ما تطاله يدها من مساجد وجامعات وبيوت أهل السنة في اليمن.
إن اغتيال اسرائيل للصف الأول والثاني والثالث من قادة حزب الله اللبناني وتدمير أهم مخازن سلاح الحزب ساهم في تدهور وزن إيران الاستراتيجي بالمنطقة ولولا ذلك لظل لها وزن أكبر من الحالي.
ومن هنا فإن مستقبل الدور الإيراني في سوريا بل في المنطقة كلها مرهون بما ستسمح لها به الولايات المتحدة وإسرائيل بجانب حقيقة موقف سوريا الجديدة وبقية قوى أهل السنة وأنظمة الحكم في المنطقة، بجانب أنه سيظل لديها خيار استخدام الإعلام الشيعي والمنظمات والأحزاب والجمعيات السرية والعلنية الشيعية والمدارس والجامعات والأضرحة الشيعية في كل بقاع المنطقة.
وللحديث بقية إن شاء الله.
Source link