إن البلاء لا يكون دائمًا من جنس ما يُكْرَه، بل قد يكون من جنس ما يُحِبُّ الإنسان ويرغبه، ليكون اختبارًا لصبره وإيمانه.
مقدمة:
الحمد لله، إن البلاء قد يكون من جهة ما يُحَبُّ، كما قد يكون من جهة ما يُكْرَه. يقدم القرآن الكريم مثالًا على ابتلاء الله لبني إسرائيل حين حرَّم عليهم صيد السمك يوم السبت، وجعل الأسماك تظهر بكثرة في هذا اليوم دون غيره. ويُعد هذا النموذج من الابتلاءات التي تكشف عن مدى التزام العبد بأوامر الله وتظهر جوهر إيمانه.
صنوف البلاء: بين ما يُحِب الإنسان وما يَكره:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ﴾ [الأعراف: 163]. ويُظهر هذا الابتلاء حال بني إسرائيل حين حرَّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، لكن الله جعل الأسماك تظهر بكثرة في هذا اليوم تحديدًا، لتصبح رؤيتها دون القدرة على صيدها اختبارًا لطاعتهم وصبرهم.
ومن أنواع البلاء ما يكون من جهة ما يُحب الإنسان، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ﴾ [الأنبياء: 35]، فالابتلاء قد يكون بإغراءات الدنيا وزينتها، وقد يُفتَح للعبد فيها من الأبواب ما يشغله عن طاعة الله ويختبر قوة إيمانه.
وقد يظن البعض أن الرخاء واليسر نعمة خالصة، إلا أن هذا النوع من الابتلاء قد يكون أشد وأعظم من الابتلاء بالضراء؛ كما قال بعض السلف: “ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر”. أخرج الضياء المقدسي في “الأحاديث المختارة” قال: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ الْحَدَّادَ أَخْبَرَهُمْ إِجَازَةً (ح) وَقِيلَ لِشَيْخِنَا: أَخْبَرَكُمْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِالْبَاقِي الْغَزَّالُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، أَنَا حَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ، قَالَا: أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِاللهِ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ، نَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: بُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، وَبُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَسْمَعْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ مِنْ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ رَجُلٍ عَنْهُ. أخرجه الضياء المقدسي في “الأحاديث المختارة” (3 / 121) برقم: (920) (مسند عبدالرحمن بن عوف) (بهذا اللفظ).
ابتلاء بني إسرائيل: حيلة التحايل على الأمر الإلهي:
عندما ابتُلي بنو إسرائيل بتحريم صيد السمك يوم السبت، لجأوا إلى حيلة التحايل، حيث كانوا ينصبون الشباك قبل يوم السبت، ليأتي السمك ويقع فيها، ثم يجمعونه بعد انتهاء اليوم. وبهذا لم يمارسوا الصيد مباشرة يوم السبت، بل تظاهروا بالامتناع عنه، لكنهم في الحقيقة خالفوا أمر الله بتحايلهم. وقد كان البلاء الحقيقي في مدى التزامهم بطاعة الله وامتثالهم لأمره، وليس مجرد تجنُّب الصيد شكليًّا. وهذا التحايل كان محط اختبار عظيم لبني إسرائيل؛ إذ أراد الله أن يُظهر ما في قلوبهم من الإيمان أو الفسق، فجعلهم أمام بلاء من جنس ما يحبون، ليتضح إن كانوا سيصبرون ويطيعون أم سيلجؤون إلى طرق ملتوية لتحقيق رغباتهم.
خاتمة:
إن البلاء لا يكون دائمًا من جنس ما يُكْرَه، بل قد يكون من جنس ما يُحِبُّ الإنسان ويرغبه، ليكون اختبارًا لصبره وإيمانه. ويأتي التحذير هنا من اتباع الأهواء والتحايل على أحكام الله، كما حدث مع بني إسرائيل، حيث امتحنهم الله في أمر كان يمكنهم الامتثال له ببساطة، لكنهم اختاروا طريق الالتفاف على حكم الله. ويعلمنا هذا الدرس أن الرخاء قد يكون بلاءً خفيًّا لا يصبر عليه إلا من قوي إيمانه واتسع يقينه بالله.
Source link