الوصية أيها المباركون هي الأمر بالتصرف بعد الموت في المال وغيره مما يملكه الإنسان في الحياة، وقد حث عليها المولى جل وعلا، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}
الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وأُصلي وأُسلم على الرحمة المهداة؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]، أما بعد:
عباد الله، أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكْبَرُ ابنُ آدَمَ ويَكْبَرُ معهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وطُولُ العُمُر».
ففي الحديث بيان أنَّ أحَبَّ الأشياءِ إلى ابنِ آدمَ نفْسُه، فهو راغبٌ في بَقائها؛ فأحَبَّ لأجل ذلك طُولَ العُمرِ، وأحَبَّ المالَ؛ لأنَّه في نظر كثير من الناس أعظم أسباب تحقيق السعادة، فكلَّما أحَسَّ بقُربِ نَفادِ أحد الأمرين أو كليهما وانقطاعه عنه، اشتدَّ حبُّه له، ورَغبته في دَوامِه، وحُبُّ المال وكَراهيةُ الموتِ يَتساوىفيهما الشَّبابُ والشُّيوخُ.
والموت والانقطاع عن هذه الحياة والرحيل منها حق لا بد منه، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، فإن الله تعالى قضى على عباده الموت، لينتقلوا من الدنيا للبرزخ ثم إلى يوم البعث والنشور، ففريق في الجنة، وفريق في السعير، وبالموت تنقطع الأعمال، ومن رحمته سبحانه بعباده أن شرع لهم أعمالًا تجري أجورها عليهم بعد مماتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»؛ (رواه مسلم).
وخير ما يُثبِّت هذا كله الوصية، فهي مما حثَّ عليه الإسلام، ورغب فيه، ليستمر أجر المسلم بعد موته، ولكون الوصية تذكر بالموت قد ينصرف بعض الناس عنها، ومنهم من أشغلته الدنيا أو نسيها ولم يحظ بمذكر له بها، وآخر متثاقل عن كتابتها أو مسوِّف، وتركها وإهمالها يُفضي إلى فوات صدقة جارية للمسلم تنفعه بعد مماته، وترتفع بها درجته عند ربِّه جل وعلا.
والوصية أيها المباركون هي الأمر بالتصرف بعد الموت في المال وغيره مما يملكه الإنسان في الحياة، وقد حث عليها المولى جل وعلا، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ له شيءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»؛ (رواه البخاري)، فدلت الآية والحديث على المبادرة بالوصية وكتابتها، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله إجماع أهل الأمصار في جميع الأعصار على مشروعية الوصية.
إخوة الإسلام، حكم الوصية يختلف باختلاف حال الموصي، فمن كان عليه حقوق لله تعالى؛ كالزكاة والنذر والكفارات وحج الفريضة وغير ذلك من حقوق الرب سبحانه، أو حقوق للعباد من دين أو ودائع وغيرها، فإنه الوصية في حقه تجب ليؤدي ما عليه من حقوق، وتبرأ ذمته أمام ربه عز وجل، ويسلم من حقوق العباد، وتُستحبُّ في حق من كان له مال يوصي بثلثه أو ربعه أو أقل يُتصدق به فيما ينفعه في آخرته في أوجه البر والإحسان، وتُكره الوصية لمن كان له مال قليل ثم أوصى بما يفوِّت على ورثته ما ينفعهم ويسد حاجتهم، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جَاءَنَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعُودُنِي مِن وجَعٍ اشْتَدَّ بي زَمَنَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقُلتُ: بَلَغَ بي ما تَرَى، وأَنَا ذُو مَالٍ، ولَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي، أفَأَتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لا»، قُلتُ: بالشَّطْرِ؟ قَالَ: «لا»، قُلتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ والثلث كَثِيرٌ، أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ولَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا»؛ (رواه البخاري)، وهذه الكراهية فيما يتعلق بالصدقة بالثلث أو دونه لمن كان ماله قليلًا لا يكفي ورثته مع بقاء الأصل، وهو أن يكتبها عملًا بنصوص الوحي، ونصحًا لذريته، وبيان ما له من حقوق وما عليه، وتحرم الوصية إذا كانت بطلب قطيعة رحم، أو إنفاق مال في محرم، أو وصيةً بمال لوارث، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث»؛ (رواه أبو داود)، ومقدار ما يوصي به الثلث فما دونه؛ إذ لا يجوز الوصية بأكثر من الثلث، ويستحب الإشهاد على الوصية، سواء كتبها بنفسه، أو كتبها غيره بإملائه.
أيها الفضلاء، ليس للوصية صيغة معينة، يلتزم بها الإنسان حتمًا؛ بل يوصي كلُّ إنسانٍ بما يناسب حاله وحال أهله، وبأي أسلوب كانت تؤدي الوصية به مقصدها الشرعي، وبيان ما لصحابها وما عليه من الحقوق، وإن كتبها وفق ما كان السلف رحمهم الله يكتبون وصاياهم فحسن، روى الدارقطني والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه يحكي عن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان ابن فلان: يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور، وأوصَى من ترك من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
وينبغي للمسلم أن يتحرَّى أفضل الأعمال لوصيته من أعمال البر؛ كسُقيا الماء، وبناء المساجد وخدمتها، وقضاء ديون الفقراء، وكفالة الأيتام والأرامل، وتعليم كتاب الله تعالى، والعلم الشرعي، وكفالة الدعاة ومعلمي العلم الشرعي، وشراء المصاحف وتوزيعها، وطباعة الكتب العلمية النافعة وتوزيعها، وما أجمل أن يُشارك في الأوقاف المتنوعة للجمعيات ذات الأنشطة المتعددة؛ ففي ذلك استمرار للأجور للموصي وغير ذلك من أوجه البر والخير.
وأول ما يُخرج من مال الميت ما يتعلق بتجهيزه من كفن وتغسيل وحفر قبر وما يلحق ذلك، ثم أداء ما عليه من حقوق لله تعالى، ثم سداد ما عليه من الديون وأداء الحقوق التي عليه لأصحابها، ثم القيام بقسمة التركة كما أمر بذلك الله تعالى في كتابه دون إنقاص أحد من الورثة حقه لصغره أو ضعفه أو عجزه، ولو كان الموصي ظلم في وصيته أحد ورثته فلا يُجاب ويوافق على ظلمه.
ويستحب أن يُعين الموصي من يتولى القيام على وصيته من بعده وإخراج الواجب عليه فيها، وتنفيذ وصاياه مسلمًا بالغًا عاقلًا عدلًا رشيدًا أمينًا، سواء أكان من أولاده أو أحد أقاربه، أو من غيرهم، ويستحب قبول الوصية والقيام عليها لمن قوي عليها، ووثق من نفسه القيام بها؛ لأن قبولها فيه نفع للموصي وإحسان إليه.
وإذا عين الموصي من هذه صفاته، أمن من تعطيل الوصية، فإن هناك بعض الوصايا معطلة، لا ينتفع بها الموصي ولا الورثة ولا المحتاجون الموصى لهم ولا سُبل الخير التي أوصى الميت بالمساهمة له فيها في الثلث أو ما دونه بسبب سوء تصرف الوصي أو عدم مبالاته، فبعض الأوصياء لا يبالون بتنفيذ ما أُسند إليهم في الوصية؛ فقد يتأخر في تنفيذها، ومنهم من يُسَوِّف على أصحاب الحقوق، ومنهم من يقتطع من حقوق الورثة ما لا يجوز له، وهكذا تعتري الوصية بعض الأعراض الخطيرة التي تؤثر سلبًا على الموصي، وعلى أصحاب الحقوق من الدائنين أو الورثة خاصةً إذا كانوا صغارًا ضعافًا أو نساءً أو شيوخًا.
أيها المؤمنون، مما يُؤسف له أن بعض الورثة يعترض على الاستعجال بتوزيع التركة لانتفاعه ببعضها، ويختلق الأعذار لتأخير قسمة التركة، أو يُتأخر في قسمتها مع حاجة بعض الورثة للمال خاصةً إذا كان الوارث من الضعفاء كالمرأة أو الشيخ الكبير أو الطفل، وقد يقعون في حرج وضيق وحياء أو خوفًا من عاقبة طلب حقهم من مال مورثهم، وقد تُقسم التركة وتُحرم المرأة من حقها في الميراث سواء كانت بنتًا أو أختًا أو زوجة أو أمًّا، أو الطفل الصغير، وهذا أمر محرم شرعًا؛ لأنه من التعدي على حقهم الذي فرضه الله تعالى لهم، فالأصل أن الميراث وما خلَّفه الميت من مال يجمع الأسرة ولا يفرقها، ويقويها ولا يضعفها، والواجب على العقلاء من ذرية كل مورث أو إخوته ألَّا يغلبهم حب المال فيقدموه على حبهم لأهلهم وإخوانهم وأخواتهم، وليحذر الذين يتساهلون في أكل أموال الضعفاء من الميراث بأي مبرر الوعيد الشديد من رب العالمين القائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَعِيفَين: اليَتِيم والمَرْأَة»؛ (رواه النسائي وابن ماجه)، كما ينبغي على أقارب المتوفى التعاون فيما بينهم على منع المعتدي على أموال الضعفاء من ورثته، وذلك بنصح المماطل أو المعتدي وتذكيره بحرمة هذا الفعل وخطورته، فإن لم ينتهِ عن فعله وظلمه؛ فيتم إبلاغ الجهات المعنية بشأنه أو يُرفع أمره للقضاء.
فهنيئًا لمن قدم لآخرته وبادر بكتابة وصيته قبل أن يفجأه الموت ويفوته خير كثير، وهنيئًا لمن أحسن اختيار من يقوم على وصيته من بعده ليؤديها كما أوصى، وأبان الأمر كله، وسعى للَمِّ شملِ أسرته واستمرار صلتهم وتوادهم من بعده ببذل ما في وسعه في حياته لتحقيق ذلك دون تقريب أحد الأبناء وإقصاء الآخرين، وغير ذلك من الصور التي تسهم في وقوع الاختلاف والشقاق بعد موته.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم وفقنا لأعمالٍ صالحةٍ يجري أجرها بعد الموت، ووفقنا لحُسْن الوصية وحُسْن الاستعداد للقائك يا رحمان.
___________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف
Source link