منذ حوالي ساعة
إذا رأى الهلال أهل بلد، هل يلزم بقية الناس الصوم؟
إذا رأى الهلال أهل بلد، هل يلزم بقية الناس الصوم؟
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: يلزم جميع الناس الصومُ، وهو مذهب الحنابلة، وأكثر الحنفية، وهو مذهب الإمام مالك؛ فيما رواه عنه ابن القاسم والمصريون، وروى المدنيون عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذي وقَعت فيه الرؤية، إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك، وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك، واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1- قوله – صلى الله عليه وسلم -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».
وأجيب عنه بأنه خطاب لكل جماعة تشترك في مطلع الهلال، وعلى فرض عمومه، فهو مخصوص بالأدلة الأخرى.
2- قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فدل على وجوب الصوم على الجميع عند تحقُّق مسمى الرؤية.
وأُجيب عن هذا الاستدلال أنه لإيجاب الصيام على المقيم غير المريض، وهو أيضًا خطاب لكل جماعة تشترك في مطلع الهلال، بدليل قوله: {منكم}، ثم على التسليم بعموم الآية، فهي مخصصة بالأدلة الأخرى الدالة على عدم وجوب الصوم على مَن لم يوافق ذلك البلد في المطلع.
3- أن ذلك أقربُ إلى اتحاد المسلمين وتوحيد كلمتهم.
القول الثاني: لا يجب إلا على مَن رآه أو كان في حكمهم، بأن توافَقت مطالع الهلال، فإن لم تتفق فلا يجب الصوم، وهذا هو مذهبُ الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام على ما نسبه البعلي، واستدلوا بما يأتي:
1- عن كُريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، فقال: “فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم”؛ [م 1087].
فدل هذا على أنه لا يثبت دخول الشهر في البلد المخالف لبلد الرؤية في المطلع.
2- قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع، لا يقال: إنهم شاهدوه لا حقيقة ولا حكمًا.
3- قوله – صلى الله عليه وسلم -: {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته}، فعلَّل الأمر في الصوم بالرؤية، ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال: إنه رآه لا حقيقة ولا حكمًا.
4- أن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق، فلا يلزم أهل المغرب أن يُمسكوا؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر، فكما أنه يختلف المسلمون في الإمساك والإفطار اليومي، فيجب أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري.
القول الثالث: أنه إن ثبت دخول الشهر بأمر شائعٍ لزِم البعيد، وإن ثبت عند الحاكم بشهادة شاهدين، لم يلزم مَن خرَج مِن ولايته، إلا أن يكون أمير المؤمنين، ويُلزم الناس بذلك فإنه يلزَمهم، وهذا قول ابن الماجشون من المالكية، واستدل بأن البلاد في حق الإمام الأعظم كالبلد الواحد.
القول الرابع: أنه لا يلزم الصوم غير أهل البلد الذي حصَلت فيه الرؤية، إلا إذا كان الإمام يحمل الناس على ذلك.
القول الخامس: أنه يلزم حكمُ الرؤية كلَّ مَن أمكَن وصول الخبر إليه في الليلة، وهذا يشابه قول الحنابلة في الوقت الحاضر؛ لأنه يمكن أن يَصِل الخبر إلى جميع أقطار الدنيا في أقل من دقيقة، لكن يختلف عن المذهب فيما إذا كانت وسائل الاتصالات مفقودة، ولعل هذا القول يعتبر وصول الخبر في الزمن الماضي، حتى وإن كانت الوسائل في الحاضر متاحة، وهذا قول شيخ الإسلام الذي نصره في الفتاوى، فقال: “وأما إذا رُئِيَ بمكان لا يُمكن وصولُ خبره إليهم إلا بعد مُضي الأول، فلا قضاء عليهم؛ لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يُمكنهم فيه رؤية الهلال، وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم”؛ [مجموع الفتاوى 25/106].
القول السادس: أنه تعتبر الرؤية للجميع إذا رُئي بمكة، وبه قال الشيخ أحمد شاكر، واستدل بحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون)؛ (د 2324، ت 697، جه 1660، وصححه الألباني)، وفي رواية أبي داود: (وفطركم يوم تُفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل مِنى مَنحر، وكل فِجاج مكة مَنحر، وكل جمع مَوقف)، فذكرُ أماكن الحج يرجِّح أن الصوم يوم يصوم أهل مكة، فهم المعتبر رؤيتهم والناس تبَعٌ لهم.
وكنت في الماضي أعتمد القول الثاني، لكن قرأت بعد ذلك كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، يتبيَّن به أن القول المنسوب إليه في باعتبار اختلاف المطالع غير دقيق، وهو القول الذي اعتمد فيه العلماء على ما نسَبه البعلي له في الاختيارات الفقهية.
وقد حرَّر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى هذه المسألة، واختار القول الخامس، بل قال إنه: “ما من قول سواه إلا وله لوازمُ شنيعة”، واستدل بما يأتي:
1- أن الإمام أحمد اعتمد في الباب على حديث الأعرابي الذي شهِد أنه أهلَّ الهلال البارحة، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – الناس على هذه الرؤية، مع أن هذه الرؤية يمكن أن تكون في غير البلد، وأن تكون فوق مسافة القصر ولَم يَستفصله.
2- أن من حدَّد اتحاد الرؤية بمسافة القصر، وكذلك من حدَّدها باختلاف المطالع والأقاليم قولهما ضعيف، فإن مسافة القصر لا تعلُّق لها بالهلال، وأما الأقاليم فما هو حدُّها؟ وأيضًا فإن اعتماد مسافة القصر أو الأقاليم، يُفضي إلى أن يكون رجل في آخر المسافة والإقليم، فعليه أن يصوم ويفطر ويَنسُك، وآخر بينه وبينه غَلوةُ سهمٍ لا يفعل شيئًا من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين.
3- أن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب، فإنه متى رُئي في المشرق، وجب أن يرى في المغرب ولا ينعكس؛ لأنه يتأخر غروب الشمس بالمغرب عن وقت غروبها بالمشرق، فإذا كان قد رئي في المشرق ازداد بالمغرب نورًا وبُعدًا عن الشمس وشعاعها وقت غروبها، فيكون أحقَّ بالرؤية، وهذا أمرٌ محسوس، ولذلك إذا دخل وقت المغرب بالمغرب دخل بالمشرق ولا ينعكس، فطلوع الكواكب وغروبها بالمشرق سابق، وأما الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق؛ لأنه يطلع من المغرب وليس في السماء ما يطلع من المغرب غيره، وسببُ سَبْق طلوعه في المغرب أنه قد لا يرى في المشرق في ذلك اليوم، لكن لتأخُّر غروب الشمس في المغرب عنه في المشرق، فإن الهلال يزداد بُعدًا عن الشمس، فقد يرى في المغرب قبل المشرق، لكنه إذا رُئِيَ في المشرق لزِم أن يرى في المغرب.
4- أن هلال الحج ما زال المسلمون يتمسَّكون فيه برؤية الحجاج القادمين وإن كان فوق مسافة القصر، ويعتبر برؤية من رآه، ولا يقال: إن كل بلد لهم رؤيتهم.
5- أن قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «صومكم يومَ تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون»؛ (ت 697، جه 1160، د 2324، وقال الترمذي: “حسن غريب”، وقال ابن القيم: “فيه محمد بن المنكدر لم يسمَع من أبي هريرة”؛ تهذيب السنن 6/442، وضعفه ابن القطان، وصححه الألباني)، وهذا الحديث يدل على أن الصواب أنه إذا شهِد شاهدٌ ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم، وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب، فعليهم إمساك ما بقِي، سواء كان من إقليم أو إقليمين، والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد.
فأما إذا بلَغتهم الرؤية بعد غروب الشمس، فالمستقبل يجب صومه بكل حال، لكن اليوم الماضي الذي لم يُمكن أن يبلغهم فيه، هل يجب قضاؤه؟ الصواب أنه لا يجب ذلك؛ لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يُمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يُمكنهم فيه رؤية الهلال، وهذا لم يكن يُمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم، ولأن التكليف يَتبع العلم، ولا علم ولا دليل ظاهر فلا وجوب، ولأننا لو قلنا: إنهم يقضون ذلك اليوم وجوبًا أو استحبابًا، لاستُحِبَّ صيامُ يوم الشك؛ لأنه قد يأتي الخبر بدخول الشهر، وما مِن شيءٍ في الشريعة يُمكن وجوبه إلا والاحتياط مشروع في أدائه، فلمَّا لم يُشْرَع صيامُ الشك، علِمنا بأنه لا وجوب مع عدم العلم وعدم الرائي، فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ، فمن بلغه أنه رُئِيَ ثبَت في حقه مِن غير تحديد بمسافة، وهذا يُطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر، فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر، فإنها مَحَلُّ الاعتبار؛ (مجموع الفتاوى 25/ 103-113).
_____________________________________________________
الكاتب: د. عبدالرحمن أبو موسى
Source link