قال الإمام رحمه الله: ليس عندنا شيء من الأعمال الصالحة يعدل الجهاد والغزو والرباط، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن اليوم في الرباط يعدِل ألف عام فيما سواه.
الحمد لله الذي عزَّ جلاله، فلا تُدركه الإفهام، وسما كمالُه فلا يُحيط به الأوهامُ، وشهِدت أفعالُه أنه الحكيم العلام، الموصوف بالعلم والقدرة والكلام، سبحانه هو الله الواحدُ السلام، المؤمنون حبَّب إليهم الإيمان وشرَح صدورهم للإسلام، ويَقبَل التوبة، ويَكشِف الحَوبة، ويغفر الإجرام، تبارَك اسمُ ربك ذي الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ شهادة من قال ربي الله ثم استقام.
الله ربي لا أُريد ســــــــــــــواه ** هل في الوجود حقيقةٌ إلا هو
يا مَن وجَب الكمال بذاتــــــــه ** فالكل غايةُ فوزهم لُقيــــــــاه
عجَز الأنامُ عن امْتِداحِكَ أنَّـــهُ ** تتصاغَر الأفكارُ دون مَـــــداه
مَن كان يَعرِفُ أَنَّك الحقُّ الذي ** بَهَرَ العقولَ فحَسبُه وكَفـــــاه
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.
لم يزَل صلى عليه الله وسلم يقاتِل في الله بعزٍم واهتمام، حتى انقشَع عن سماء الحق تراكمُ الغَمام، وظلَّ في أُفق الإيمان بدرُ التمام.
إذا أردتَ أن تفوزَ وتَرتقــــي ** دَرَجَ العُلى أو تنالَ منه رِضــاه
أدِمِ الصلاة على محمد الذي ** لولاه ما فتَح المكبِّر فــــــــــاه
وله الوسيلةُ واللواءُ وكوثــرٌ ** يَروي الورى وكذا يكونُ الجاه
وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نهجه، وتمسَّك بسُنته، واقتدى بهدْيه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحمَ الراحمين.
اعلَموا بارك الله فيكم أن من فضائل الأعمال التي يَنال بها العبدُ الأجرَ العظيم والقربَ من خالقه – سبحانه وتعالى – الرباطَ في سبيل الله؛ عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رِباطُ يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمَله، وأُجري عليه رزقُه، وأَمِنَ الفتَّان»[1].
عن سلمان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رِباطُ يومٍ في سبيل الله أفضلُ من صيام شهر وقيامه، ومَن مات فيه وُقِيَ فتنةَ القبر، ونَما له عملُه إلى يوم القيامة» [2].
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، ومَوضع سَوطِ أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والرَّوحة يَروحها العبدُ في سبيل الله، أو الغدوة، خيرٌ من الدنيا وما عليها» [3].
يقول بدر الدين العيني – رحمه الله – قلت: الرباط هي المرابطة، وهي ملازمة ثَغر العدو، وقال ابن قتيبة: أصلُ الرباط والمرابطة أن يَربِط هؤلاء خيولَهم، وهؤلاء خيولَهم في الثغر، كلٌّ يُعِدُّ لصاحبه، وقال ابن التيِّن: بشرط أن يكون غير الوطن، قاله ابن حبيب عن مالك، وفيه نظرٌ؛ لأنه قد يكون وطنه ينوي بالإقامة فيه دفعَ العدو، ويقال: الرباط المرابطة في نحور العدو، وحِفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حَوزة بلاد المسلمين، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] إلى آخر الآية، وقوله: مجرور عطفًا على قوله: فضل رباط، وتمام الآية {وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
قال زيد بن أسلم: اصبِروا على الجهاد، وصابِروا العدو، ورابِطوا الخيل على العدو، وعن الحسن وقتادة: اصبِروا على طاعة الله، وصابروا أعداء الله، ورابِطوا في سبيل الله، وعن الحسن أيضًا: اصبِروا على المصائب وصابِروا على الصلوات الخمس.
أولًا: رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها:
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن صلى الله عليه وسلم قال: «رباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، ومَوضعُ سَوطِ أحدِكم في الجنة، خيرٌ من الدنيا وما عليها»[4].
ثانيًا: رباطُ يومٍ وليلة خيرٌ من صيام وقيام شهر، ورباط شهر خيرٌ من صيام الدهر، وهو كذلك يَعدِل ويَفضُل الصومَ، فيوم يقوم فيه المسلم على ثغر من الثغور، خيرٌ من صيام وقيام شهر؛ روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رباطُ يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه جرى عليه عملُه الذي كان يعمَل، وأُجري عليه رزقُه وأَمِن الفتَّان»[5].
يقول الإمام النووي – رحمه الله -: رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمَله)، هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلةٌ مختصَّة به، لا يُشاركه فيها أحدٌ، وقد جاء صريحًا في غير مسلم: كلُّ ميِّت يُختم على عمله إلا المرابِط، فإنه يُنمَّى له عملُه إلى يوم القيامة. قوله صلى الله عليه وسلم: (وأُجري عليه رزقُه) موافق لقول الله تعالى في الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، والأحاديث السابقة أن أرواح الشهداء تأكُل من ثمار الجنة، قوله صلى الله عليه وسلم: (أَمِنَ الفتان): ضبطوا أَمِنَ بوجهين، أحدهما أمن بفتح الهمزة وكسر الميم من غير واو، والثاني أُومن بضم الهمزة وبواو، وأما الفتَّان، فقال القاضي: رواية الأكثرين بضم الفاء، جمع فاتن، قال: ورواية الطبري بالفتح، وفي رواية أبي داود في سننه: أُومِن مِن فتَّاني القبر[6].
عن أبي صالح مولى عثمان قال: سمعت عثمان وهو على المنبر يقول: إني كتمتُكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهيةَ تفرُّقكم عني، ثم بدا لي أن أُحدِّثكموه؛ ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألف يوم فيما سواه من المنازل [7].
ثالثًا: كل ميت ينقطَع عمله إلا من مات مرابطًا، فإنه يَجري عليه أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وعملُ المرابط إذا مات فيه، فإن الله تعالى يُجري ثواب ذلك العمل إلى يوم يلقاه، فيُكتب له ثواب ذلك العمل وإن كان فارق الحياة؛ وذلك لأن رباطه كان سببًا من أسباب الأمن الذي تعيش فيه الأمة، وبسبب ذلك الأمن عُبد العباد الله تعالى، وأُعلنت شعائره في كل مكان، فكان جزاؤه أن يُجري الله عليه عمله إلى يوم القيامة، والله أعلم؛ روى أبو داود والترمذي والحاكم عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل ميِّت يُختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يُنمَّى له عمله إلى يوم القيامة، ويُؤمن من فتنة القبر»[8].
عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّ ميت يُختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يُجري له أجرُ عمله حتى يُبعث» [9].
رابعًا: إن الله يؤمِّنه من الفزع الأكبر يوم القيامة:
من ثواب المرابط إذا توفاه الله وهو على تلك الحال – أن الله تعلى يؤمِّنه حيث يخاف ويفزع الناس يوم الفزع الأكبر، يوم ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد؛ روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات مرابطًا في سبيل الله، أُجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل، وأُجري عليه رزقُه، وأمِن من الفتَّان، وبعثه الله يوم القيامة آمنًا من الفزع الأكبر»[10].
خامسًا: إذا مات المرابط في رباطه بعثه الله يوم القيامة شهيدًا:
روى ابن ماجه وعبد الرزاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن مات مرابطًا مات شهيدًا، ووُقي فتان القبر، وغُدِي عليه ورِيحَ برزقه من الجنة، وجرى له عملُه).
سادسًا: أن اليوم في الرباط يعد ألف يوم فيما سواه:
من العطايا الربانية للمرابطين في سبيله أن جعل لهم اليوم بألف يوم فيما سواه؛ روى الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة عن عثمان بن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «(رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من ألف يوم فيما سواه من المنازل»[11].
وهذا يشمل كل المنازل حتى لو كانت مكة المكرمة أو المدينة المنورة أو بيت المقدس على فضلها جميعًا.
وتأمَّلوا أيها الأحباب إلى أحوال أُولي الألباب كيف ترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتوجَّهوا إلى أرض الرباط في الشام ومن ورائهم سار التابعون إلى أن ماتوا شهداءَ ومرابطين في بلاد الشام، فقد توجه الحارث بن هشام رضي الله عنه إلى الشام، ورابَط وجاهد في سبيل الله إلى أن لقي الله شهيدًا في معركة اليرموك، وقد نقَل الإمام ابن تيمية رحمه الله إجماعَ العلماء على أن إقامة الرجل بأرض الرباط مرابطًا، أفضل من إقامته بمكة والمدينة وبيت المقدس.
وسئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أيهما أحب إليك: الإقامة بمكة أم الرباط في الثغور؟ فقال: الرباط أحب إليَّ، وقال الإمام أحمد أيضًا رحمه الله: ليس عندنا شيء من الأعمال الصالحة يعدل الجهاد والغزو والرباط، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن اليوم في الرباط يعدِل ألف عام فيما سواه؛ عن أبي صالح مولى عثمان قال: سمعت عثمان على المنبر وهو يقول: إني كنت كتمتُكم حديثًا سَمِعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهيةً تفرُّقكم عني، ثم بدا لي أن أُحدثكموه؛ ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباطُ يوم في سبيل الله خيرٌ من ألف عام فيما سواه من المنازل» [12].
[1] رواه مسلم، ح 1913. [2] رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: صحيح؛ انظر صحيح الجامع رقم 348. [3] صحيح البخاري، [جزء 3، صفحة 1059، ح 2735. [4] أخرجه البخاري ح (2735). [5] أخرجه مسلم ح 1913 [6] شرح النووي على مسلم ج 13، ص 61. [7] أخرجه أحمد ح 442، سنن الترمذي ج 4 – ص 189، ح 1667، والنسائي ح 3169، وابن حبان في صحيحه ح 4609، والطيالسي ح 87، وقال الألباني في صحيح الترغيب: حسن لغيره ح 1224، وشعيب الأرنؤوط: إسناده حسن رجاله ثقات، رجال الصحيح غير أبي صالح مولى عثمان. [8] رواه الترمذي ح 1621، والطبراني في الكبير ح 641، والطبراني في مسند الشاميين ح 1158، وقال الشيخ الألباني: (صحيح)؛ انظر حديث رقم: 4539 في صحيح الجامع. [9] أخرجه أحمد حنبل، جزء 4 – ص150، والطبراني في الكبير ح848، والترمذي ح 1621، وأبو داود ح 2500، وقال الشيخ الألباني: (صحيح)؛ انظر حديث رقم: 4562 في صحيح الجامع. [10] أخرجه ابن ماجه ح 2767، وأحمد ح 9233، وقال الشيخ الألباني: (صحيح)؛ انظر حديث رقم : 3479 في صحيح الجامع. [11] أخرجه أحمد ح 470، والترمذي ح 1667، والنسائي ح 3169، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب ح 1224. [12] أخرجه الدارمي في سننه ح 2424، وقال محقِّقه حسين سليم أسد: إسناده جيد.
________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة
Source link