فضل ذي القعدة – طريق الإسلام

عباد الله حريّ بالمسلم أن يمضي وقته بين ذُل وخضوع ورجاء وخشوع، ويزداد إيمانًا في الأشهر الحرم، مستغفرًا باكيًا على ما مضى، مغتنمًا لما قد دنا، وذو القعدة من أشهر الحج، قال تعالى:  {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ…}

عباد الله: فها هي مواسم الخير تتوالى إذ خلنا في شهر حرام، فذو القعدة من الأشهر الحرم التي عظّمها الله في كتابه، فقال تعالى:  {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ….} [2]، وقد كانت العرب في الجاهلية تعظّمه، فكانوا يقعدون فيه عن القتال، فجاء الإسلام فأقرّ هذا التعظيم، وزاد في حرمته وقدسيته، قال الزمخشري (رحمه الله): {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}يعنى أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما[3].

 

عباد الله حريّ بالمسلم أن يمضي وقته بين ذُل وخضوع ورجاء وخشوع، ويزداد إيمانًا في الأشهر الحرم، مستغفرًا باكيًا على ما مضى، مغتنمًا لما قد دنا، وذو القعدة من أشهر الحج، قال تعالى:  {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ…} [4]، وقال ابن عمر رضي الله عنهما:  أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة[5].

 

عباد الله هذا الشهر تتجه فيه القلوب إلى الاستعداد لخير أيام الدنيا، وتهيئة النفوس لاستقبال عشر ذي الحج، وقد روى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» [6]، وهذا التخصيص يدل على مكانتها وفضلها، ولهذا عظّم السلف هذا الشهر، وامتنعوا فيه عن الظلم، تعظيمًا لما عظّمه الله. قَالَ قَتَادَةُ (رحمه الله): {إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا، مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ} [7].

 

أيها الأحبة: شهد هذا الشهر المبارك أحداثًا جليلة، فقد كانت بيعة الرضوان التي أثنى الله بها على المؤمنين في هذا الشهر، فقال تعالى:  {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ…..} [8]، وكانت فيه عمرة الحديبية، وفيه اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عمرات متفرقات، وعُمرته الرابعة كانت مع حجة الوداع، فعن أنس رضي الله عنه: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ» [9]، مما يدل على فضل العمرة في هذا الشهر واختياره للنسك.

 

وذو القعدة هو مدخل لشهر ذي الحجة، الذي فيه أفضل أيام الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيام»[10]، أي عشر ذي الحجة. فكان ذو القعدة ميدانًا للاستعداد، وفرصة للتوبة، ومجالًا للإكثار من العمل الصالح.

 

عباد الله إن التأني في الأمور محمود إلا في فعل الطاعات والرجوع إلى الله، أمرنا فيها بالمسارعة والمسابقة قال تعالى في وصف المؤمنين المتقين  {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [11]، وقال تعالى:  {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[12] فحريٌّ بالمسلم أن يغتنم هذا الشهر بالطاعات، ويجتنب الظلم والمعاصي، ويستشعر عظمة الزمان الذي عظّمه الله، رجاء أن يكون من الفائزين برضا الله وبركته..

 

فيا عباد الله: الطاعة نور يغمر القلب وسكينة تنزل على النفس، وهي منّة من الله تفتح للعبد أبواب خير لا يُحصى، ومن رحمة الله بعباده أن جعل للطاعة أثراً يتعدى لحظتها، فهي تجرّ أختها، وتغرس في القلب رغبةً في المزيد من القرب، حتى يجد العبد نفسه مستأنساً بالطاعة، نافراً من المعصية، كما قال بعض السلف: “الطاعة علامة القبول، ومن وُفّق لعمل صالح بعد الطاعة، فهو من المبشَّرين.

 

أما المعصية، فإنها وإن كانت خطراً في كل وقت، فإنها أعظم إثمًا وأشد شؤمًا حين تقع في زمان عظّمه الله، كالأشهر الحرم التي قال فيها عز وجل:  {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. فهذه الأشهر لها حرمة مخصوصة، وذنب العبد فيها أعظم وأثقل. وقد بيّن العلماء أن السيئة فيها ليست فقط معصية، بل استخفاف بحرمة زمان عظّمه الله، ومن تجرّأ على ذلك فقد جَمَعَ بين المعصية وسوء الأدب مع الله.

 

يقول قتادة رحمه الله: العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم، والظلم فيها أعظم وزرًا،[13] فكيف بمن يجعل هذه الأشهر بابًا لغفلته، ومنفذًا لهواه؟ لا شك أن لذلك شؤمًا يتسلل إلى نفسه وبيته وأيامه، وربما يُحرم بعدها من الطاعة، أو يجد قلبه وقد أظلم وانقبض.

 

وفي المقابل، من يعظم هذه المواسم، ويجتهد في الطاعة، يُكرمه الله بثمرات تتوالى، وتوفيق يتجدد، وراحة لا تُشترى، وسداد في الرأي والعمل. فالطاعة تُثمر الطاعة، ومن ذاق حلاوتها علم أن من بركاتها أنها تُقوّي العبد على مزيد من الخير، وتقيه شر الوقوع في المهالك.

 

فليُقبِل العبد على ربه في هذه الأشهر الكريمة، وليجعلها محطة لتطهير النفس، واستحضار عظمة من يعصي إذا عصى، وليكن على يقين أن الله إذا رأى منه صدقًا فتح له أبواب الرحمة، ووقاه شرّ نفسه، وكان معه في ليله ونهاره.

 

ومن يُعظم ما عظّمه الله، فذلك علامة على حياة قلبه، وسلامة فطرته، وصدق توبته، كما قال تعالى:  {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ…}[14].

 

يا عبد الله، إياك وذنوب الخلوات، فإنها امتحان صدقك مع الله، وخطرها عظيم، لأنها لا تقع إلا في غفلة عن رقابة الناس، لكنها لا تقع أبدًا في غفلة عن الله جل جلاله.

 

قال سبحانه:  {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [16].

 

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[17].

 

عباد الله: المعصية في الخفاء ليست خفية عند من يعلم السر وأخفى. فإذا سترك الله، فلا تقابل ستره بانتهاك حدوده، ولا تخن الله بعد أن أمنك.

 

عبد الله تب إلى الله، فإن توبتك في الخلوة أحب إلى الله من زيفِ صلاحٍ في العلانية، واذكر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[18].


[1] [سورة النساء: جزء من الآية: 131].

[2] [سورة التوبة: جزء من الآية: 36].

[3] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل- المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ) – (2 / 269) – الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت – الطبعة: الثالثة – 1407 هـ.

[4] [سورة البقرة: جزء من الآية: 197].

[5] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – كتاب الحج – باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات، – (2 / 141).

[6] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات – باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال – رقم الحديث (1679) -(3 / 1305) واللفظ له، وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه – كتاب المغازي – باب حجة الوداع – رقم الحديث (4406) – (5 / 177).

[7] تفسير القرآن العظيم- المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)- (4 / 148) – المحقق: سائمي بن محمد سلامة – الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع- الطبعة: الثانية 1420هـ – 1999 م.

[8] [سورة الفتح: جزء من الآية: 18].

[9] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – كتاب المغازي – باب غزوة الحديبية- (4148) – (5 / 122).

[10] أخرجه الإمام الترمذي في سننه – أبواب الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – باب ما جاء في العمل في أيام العشر- رقم الحديث (757)- (3 / 121): وصححه الإمام الترمذي، والإمام الألباني.

[11] [سورة المؤمنون: آية: 61].

[12] [سورة الحديد: آية: 21].

[13] معالم التنزيل في تفسير القرآن – المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510هـ)- (2 / 345)- المحقق: عبد الرزاق المهدي – الناشر: دار إحياء التراث العربي –بيروت- الطبعة: الأولى، 1420 ه.ـ

[14] [سورة الحج: جزء من الآية: 30].

[15] [سورة الطلاق: جزء من الآيتان: 2، 3].

[16] [سورة غافر: آية: 19].

[17] اخرجه الإمام ابن ماجه في سننه – كتاب الزهد – باب ذكر الذنوب – رقم الحديث (4245) – (2 / 1418)، صححه الإمام الألباني.

[18] [سورة الملك: آية: 12].

[19] [سورة الأحزاب: آية: 56].


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

سوانح تدبرية – سورة الفاتحة

سلسلة مقالات تدبرية في سور القرآن الكريم Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *