إرهاقٌ بلا صوت – طريق الإسلام

هذا العصر لا يحتاج إلى شخصٍ “مُطّلع على كل شيء”، بقدر ما يحتاج إلى من يعرف كيف يغلق الأبواب الزائدة، ويُحسن القناعة بما يكفيه، ويثق أن الوضوح لا يُولد من كثرة الاحتمالات، بل من هدوء البصيرة.

لعلّك الآن تتردّد بين أن تمضي في قراءة هذه الحروف أو أن تطويها بحثًا عن نصٍ أقصر وأيسر، لكن تأملك هذا ـ وإن بدا بسيطًا ـ هو مرآة لحالة نفسية أعمق: عن عقلٍ أضناه تتابع الخيارات، ونفسٍ أرهقها زحام التوجّهات، حتى صار القرار البسيط حقلًا من الأسئلة المتداخلة، نحن في زمنٍ لا يُبتلى الناس فيه بالمنع، بل بالإغراق في التيسير، ولا يُفتنون بضيق المسارات، بل بفائضٍ منها يشتّت الإرادة ويبعثر الوجهة.

وفي مثل هذا المناخ، يغدو الاسترسال مع فكرة واحدة لونًا من ألوان المجاهدة، ومتابعة القراءة نفسها فعلًا مقاومًا للتيه.

كنتُ أتأمل كيف أصبح أحدنا يملك عشرات المسارات أمام كل قرار، من أبسط تفاصيله اليومية إلى قراراته المصيرية، ثم يتوه، لا لأنه لا يملك حرية، بل لأنه غارق في فائض منها، فوضى التطبيقات، تشعب مسارات التعليم، تباين الأنماط التربوية، تضارب الآراء، كثرة التوصيات، كل باب يُفتح على عشرة أبواب، وكل طريق يُفضي إلى عشرين منعطفًا.

النتيجة؟ تعبٌ لا صوت له، توتر داخلي، قلق دائم من فوات الأفضل، وحيرة مزمنة تُفرغ الاختيار من لذّته، وتحوّل القرار من لحظة إرادة إلى عبء ووجل، صرنا نخشى أن نبدأ خشية أن نخطئ، ونخشى أن نلتزم خشية أن نفوّت، ونخشى أن نمضي خشية أن يكون هناك خيار أجود لم نعرفه.

وهذا مظهر عميق من مظاهر التراكم الإدراكي الذي لم يصحبه نضج قلبي، فالحرية بلا وُجهة تتوه، والاختيارات بلا مبدأ تتكاثر حدّ الانفجار. والرغبة في “الأفضل دائمًا” قد تكون خُدعة عقلك حين يفقد اليقين أن البركة لا تأتي من الكثرة، بل من الثبات على ما اختاره الله لك.

ولذلك، فإن هذا العصر لا يحتاج إلى شخصٍ “مُطّلع على كل شيء”، بقدر ما يحتاج إلى من يعرف كيف يغلق الأبواب الزائدة، ويُحسن القناعة بما يكفيه، ويثق أن الوضوح لا يُولد من كثرة الاحتمالات، بل من هدوء البصيرة.

ومن التهذيب النفسي في هذا الزمن: أن تضبط بوصلتك على مبدأ، لا على مزاج اللحظة، أن تؤمن بأن ما لم تصل إليه، لم يُقدّر لك، لا لأنه ناقص، بل لأن الاكتفاء أكرم.

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا – محمد سيد حسين عبد الواحد

مَا يُمَيِّزُ الْخِطَابَ الْإِسْلَامِيَّ عَنْ غَيْرِهِ هُوَ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى ( اَلتَّوَازُنِ ) بَيْنَ الْعَمَلِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *