التعفف – طريق الإسلام

عبادَ الله: إنَّهم صِنْفٌ عجيبٌ مِنْ الفُقَرَاءِ والمحتاجين؛ فَهُمْ يَسْتُرونَ حاجتَهم، كما يَسْتُرُ أَحَدُنا عَوْرَتَه! إنَّهم المُتَعَفِّفُون عَنْ سؤالِ الناس، وَطَلَبِ ما في أيديهم.

عبادَ الله: إنَّهم صِنْفٌ عجيبٌ مِنْ الفُقَرَاءِ والمحتاجين؛ فَهُمْ يَسْتُرونَ حاجتَهم، كما يَسْتُرُ أَحَدُنا عَوْرَتَه! إنَّهم المُتَعَفِّفُون عَنْ سؤالِ الناس، وَطَلَبِ ما في أيديهم.

ويكفي المتعفِّفُ شَرَفاً؛ أنَّ اللهَ نَوَّه بِعِفَّتِه، مع غَفْلَةِ الناسِ عنه! قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ(1) تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً(2)}، وقال ﷺ: «ليس المسكينُ الذي تردُّه التمرةُ والتمرتانِ، والأَكلةُ والأكلتانِ، ولكنَّ المسكينَ المتعفِّفُ الذي لا يسألُ الناسَ شيئًا، ولا يَفطِنونَ به فيُعطونَه!» (3).

وَمِنْ فوائدِ التعفِّف عن أموال الناس: كسبُ مَوَدَّتِهِم، والسلامةُ مِنْ مَقْتِهم(4)،

قال ﷺ: «ازهدْ فِيما في أيدِي الناسِ؛ يُحبَّكَ الناسُ» (5)، قال ابنُ عبدِ البَرّ: (فِيهِ الْحَضُّ عَلَى التَّعَفُّفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِاللَّهِ عَنْ عِبَادِهِ، وَفِي هَذَا نَهْيٌ عَنِ السُّؤَالِ، وَأَمْرٌ بِالْقَنَاعَةِ وَالصَّبْرِ)(6)،  ويقول شيخُ الإسلام: (أَعْظَمُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْرًا وَحُرْمَةً عِنْدَ الْخَلْقِ: إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَتَى احْتَجْتَ إلَيْهِمْ – وَلَوْ فِي شَرْبَةِ مَاءٍ – نَقَصَ قَدْرُكَ عِنْدَهُمْ)(6).

وَمِنْ فوائدِ التعفُّف:حفظُ حقِّ الله، مِنَ الذُّلِّ لِغَيْرِه، وقبيحٌ بالعبدِ المُريد: أنْ يتعرَّضَ لسؤَالِ العَبِيد، وهُوَ يَجِدُ عند مولاهُ كلَّ ما يريدُ!

اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ * وَبَنِيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ (7)

وَمِنْ فوائدِ التعفُّف: حفظُ ماءِ الوجه مِنَ الإراقة والمهانة! قال ﷺ: «لا تَزالُ المَسْأَلَةُ بأَحَدِكُمْ حتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» (8)، وفي الحديث الآخر: «إن المسألةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَه» (9).

وَمِنْ فوائدِ التعفِّف: قطعُ المِنَّة، وعلوُّ الهِمَّة(10)! وأمَّا إذا مَدَّ يَدَهُ للمسؤول، فقد صارَ أسيراً له! قال ﷺ: ( «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى»، قال ابنُ بَطَّال: (وَفِيهِ نَدْبٌ إِلَى التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَضٌّ عَلَى مَعَالِيَ الْأُمُورِ)(11).

وَمِنْ فوائدِ التعفُّف: تحقيقُ المطلوب في الدنيا والآخرة!  فإنَّ مَنْ أصابتْهُ فاقةٌ، فأنزلها باللهِ فَيُوشِكُ اللهُ له بِرِزْقٍ عاجلٍ أو آجِل(12)، وعن ثوبانَ قال: قال ﷺ: «من يتقبَّلُ لي بواحدةٍ وأتقبَّلُ لَهُ بالجنَّةِ؟» قلتُ: أنا، قال: لا تَسْأَلِ النَّاسَ شيئًا؛ فَكانَ ثَوبانُ يقعُ سوطُهُ وَهوَ راكبٌ، فلا يقولُ لأحدٍ ناوِلنيهِ، حتَّى يَنْزِلَ فيأخذَهُ!)(13).

ومما يُعِينُ على التعفُّف: الصبر والقناعة!  قال ﷺ: «مَنْ يَستعفِفْ يُعِفَّه اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، ومنْ يتصبَّرْ يصبرْهُ اللهُ» (14).

ومما يُعِينُ على التعفُّف: الجِدُّ والعمل، وتَرْكُ البطالةِ والكسل: فاحرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعِنْ باللهِ ولا تعجَزْ(15)! قال ﷺ: «والذي نَفْسِي بيَدِهِ؛ لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتِيَ رَجُلًا، فَيَسْأَلَهُ» (16)، قال ابن حجر: (فِيهِ الْحَضُّ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْهَا، وَلَوِ امْتَهَنَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَلَوْلَا قُبْحُ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يُفَضَّلْ ذَلِكَ عَلَيْهَا)(17).

ومما يُعِينُ على التعفُّف: معرفةُ حقيقة الناس!  فإنَّ مَنْ تَشْحَذُهُ، فهُوَ شحَّاذٌ مِثْلُكُ، واللهُ وحدَهُ الغني(18)!{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.

ومما يُعِينُ على التعفُّف: الدعاء: فإنَّ مِنْ دُعاءِ النبي: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» (19)، قال النووي: (الْعَفَافُ: هُوَ التنزه عما لا يباح، وَالْغِنَى هُنَا: الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ النَّاسِ، وَعَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ)(20).

 

 

إنَّ المسألةَ لا تَحِلُّ لغنيٍّ ولا لقوِيٍّ مُكْتَسِبٍ(21)، ولا بأس أنْ يسألَ حقًّا لهُ عندَ أحد(22)؛ وَمَنْ جاءَهُ من أخيهِ معروفٌ مِنْ غير إشرافٍ ولا مسألةٍ(23)؛ فإنَّما هوَ رِزْقٌ ساقَهُ اللهُ إليهِ(24)، ومَنْ أَخَذَ أموالَ الناسِ يريدُ أداءها: أدَّى اللهُ عنه، وَمَنْ أخذ يريدُ إتلافَها: أَتْلَفَهُ الله(25)!

اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى اللَّهُمَّ اكْفِنِا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ

 

__________________________________________

(1)التَّعَفُّفُ: التَّفَعُّلُ مِنَ الْعِفَّةِ، وَهِيَ: التَّرْكُ، يُقَالُ: عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا كَفَّ عَنْهُ، وَتَعَفَّفَ إِذَا تَكَلَّفَ فِي الْإِمْسَاكِ. انظر: تفسير البغوي (1/ 338).

(2)قال السعدي: (فهم لا يسألون بالكُلِّيَّة، وإنْ سألوا اضطرارًا؛ لم يُلْحِفُوا في السؤال؛

فهذا الصنف من الفقراء؛ أفضلُ ما وُضِعَتْ فيهم النفقات؛ لدفع حاجتهم، وشكرًا لهم على ما اتَّصَفُوا به من الصبر، والنظرِ إلى الخالق، لا إلى الخَلْق) تفسير السعدي (958).

(3)أخرجه البخاري (1479)، ومسلم (1039)، وأبو داود (1631، 1632) واللفظ له.

(4)يقول ابن القيم: (وَأَبْغَضُ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُمْ؛ فَإِنَّ أَمْوَالَهمْ مَحْبُوبَاتُهُمْ، وَمَنْ سَأَلَكَ مَحْبُوبَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتِكَ وَبُغْضِكَ) مدارج السالكين (2/130).

(5)أخرجه ابن ماجه (4102)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (922).

(6)التمهيد، ابن عبد البر (10/ 133) مختصرا.

(7)مجموع الفتاوى (1/39).

(8)مدارج السالكين (2/131).

(9)صحيح مسلم (1040).

(10)رواه الترمذي (681)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

(11)قال ابن تيمية: (كُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللَّهِ: قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ؛ فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ؛ كَمَا قِيلَ: اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَأَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ؛ وَاحْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ) مجموع الفتاوى (10/185).

 

(12)شرح صحيح البخاري، ابن بطال (3/ 431).

(13)أخرجه أبو داود (1645)، والترمذي (2326) واللفظ له، وأحمد (3696)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6566).

(14)أخرجه ابن ماجه (1837)، وأحمد (22423)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1499).

(15)رواه البخاري (1469).

(16)رواه مسلم (2664).

(17)أخرجه البخاري (1470)، ومسلم (1042).

(18)فتح الباري، ابن حجر (3/ 336) مختصرا.

(19)انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/130).

(20)رواه مسلم (2721).

(21)شرح صحيح مسلم، النووي (17/ 41) مختصرا.

(22)أخرجه أبو داود (1633)، وأحمد (23113).

(23)انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/222).

(24)الْمُشْرِفُ: الَّذِي يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ، وَالسَّائِلُ: الَّذِي يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ، والِاسْتِغْنَاءُ: أَنْ لَا يَرْجُوَ بِقَلْبِهِ أَحَدًا فَيَسْتَشْرِفُ إلَيْهِ، وَالِاسْتِعْفَافُ: أَنْ لَا يَسْأَلَ بِلِسَانِهِ أَحَدًا. انظر: الفتاوى الكبرى، ابن تيمية (5/234)، مجموع الفتاوى، ابن تيمية (10/259).

(25)أخرجه ابن حبان (854)، والحاكم (2 / 62)، وصححه إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (1005).

(26)أخرجه البخاري (2387).


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

سُنّة: سقي الماء وتوفيره للناس

منذ حوالي ساعة هذه سنة نبوية، وصدقة جارية، ورحمة عظيمة، فلا تحرم نفسك أجرها، وذكّر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *