بيان مصطلَح الترمذي في التحسين والتصحيح والغرابة – محمد بن علي بن جميل المطري

الإمام الترمذي رحمه الله مؤلف كتاب السُّنَن الذي أسماه: (الجامع المختصر من السُّنَن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل)

 

الإمام الترمذي رحمه الله مؤلف كتاب السُّنَن الذي أسماه: (الجامع المختصر من السُّنَن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل)، كتابه من أحسن كتب الحديث فائدة لا سيما للمتخصصين في علم الحديث وعِلَله، قال ابن الأثير في جامع الأصول (1/ 193): “كتاب الترمذي أحسن الكتب، وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيبًا، وأقلها تكرارًا، وفيه ما ليس في غيره من ذِكر المذاهب، ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح، والحسن، والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخره كتاب العِلَل، قد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها”، وقال الحافظ الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء (13/ 274، 276): “في كتاب جامع الترمذي علم نافع، وفوائد غزيرة، ورؤوس المسائل، وهو أحد أصول الإسلام، لولا ما كدَّره بأحاديث واهية، … وكتابه قاضٍ له بإمامته وحفظه وفقهه، ولكنه يَترخَّص في قبول الأحاديث الضعيفة ولا يُشدِّد”، وقال الحافظ ابن رجب في شرح عِلَل الترمذي (2/ 611): “اعلم أن الترمذي رحمه الله خرَّج في كتابه الحديث الصحيح، والحديث الحسن، وهو ما نزل عن درجة الصحيح، وكان فيه بعض ضعف، والحديث الغريب، والغرائب التي خرَّجها الترمذي فيها بعض المناكير، ولا سيما في كتاب الفضائل، ولكنه يبين ذلك غالبًا ولا يسكت عنه”، فكتاب سنن الترمذي أحد كتب الحديث الستة المشهورة، التي هي أمات كتب الحديث، وقد اشتمل كتابه على فقه الحديث وعِللِه، وبيان ما عليه العمل عند الفقهاء، ويتميز الترمذي في كتابه بأنه يذكر بعد كل حديث الحكم عليه من صحة أو حُسن أو ضعف وغرابة ونكارة، وبعد أن يذكر الحديث يُشير إلى ما روي في الباب من أحاديث.

والإمام أبو عيسى الترمذي إذا قال عن حديث: (هذا حديث حسن) لا يريد به الحديث الحسن المعروف في مصطلَح المتأخرين بأنه الخفيف ضبطًا المقبول عند المحدثين، بل يريد بذلك ما بيَّنه في كتابه العِلَل الصغير (ص: 758) فقال: “قال أبو عيسى: وما ذكرنا في هذا الكتاب: (حديث حسن) فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًا، ويُروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن”. وقال الحافظ ابن رجب في شرح عِلَل الترمذي (2/ 606): “الحديث الحسن بيَّن الترمذي مراده بالحسن: وهو ما كان حسن الإسناد، وفسَّر حسن الإسناد: بأن لا يكون في إسناده متَّهم بالكذب، ولا يكون شاذًا، ويروى من غير وجه نحوه، فكل حديث كان كذلك فهو عنده حديث حسن. والرواة منهم من يُتَّهم بالكذب، ومنهم من يغلب على حديثه الوهم والغلط، ومنهم الثقة الذي يقل غلطُه، ومنهم الثقة الذي يكثر غلطه. فعلى ما ذكره الترمذي: كل ما كان في إسناده مُتَّهم فليس بحسن، وما عداه فهو حسن، بشرط أن لا يكون شاذًا. والظاهر أنه أراد بالشاذ ما قاله الشافعي، وهو أن يروي الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه بشرط أن لا يكون شاذًا. وبشرط أن يروى نحوه من غير وجه، يعني: أن يروى معنى ذلك الحديث من وجوه أُخَر عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير ذلك الإسناد، فعلى هذا: الحديث الذي يرويه الثقة العدل، ومن كثُر غلطُه، ومن يغلب على حديثه الوهم إذا لم يكن أحدٌ منهم متَّهمًا، كلُّه حسن؛ بشرط أن لا يكون شاذًا مخالفًا للأحاديث الصحيحة، وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة، فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفاظ، فالحديث حينئذ حسن صحيح”.

إذا عرفت هذا فلن تستغرب من هذه العبارات الموجودة في سُنن الترمذي:

1- قال الترمذي بعد حديث (233): “حديث سمُرة حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم من قِبَل حفظِه”.

2- قال الترمذي بعد حديث رقم (315): “حديثٌ حسنٌ، وليس إسناده بمتصل“.

3- قال الترمذي بعد حديث (799): “هذا حديثٌ حسنٌ، وعبد الله بن جعفر كان يحيى بن معين يُضعِّفه”.

4- قال الترمذي بعد حديث (1089): “هذا حديثٌ غريبٌ حسنٌ في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يُضعَّف في الحديث”.

5- قال الترمذي بعد حديث (2347): “هذا حديثٌ حسنٌ، وعلي بن يزيد يُضعَّف في الحديث”.

6- قال الترمذي بعد حديث (2505): “هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وليس إسناده بمتصل”.

7- قال الترمذي بعد حديث (2917): “هذا حديثٌ حسنٌ، ليس إسناده بذاك”.

8- قال الترمذي بعد حديث (3299): “هذا حديثٌ حسنٌ، قال محمد [هو شيخه الإمام البخاري]: سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلَمة بن صخر”.

فما قال فيه الترمذي: (حديثٌ حسنٌ) أو (حسنٌ غريبٌ) غالبًا يكون فيه ضعف، قال الذهبي في تاريخ الإسلام (2/ 399): “تحسين الترمذي لا يكفي في الاحتجاج بالحديث، فإنه قال: وما ذكرنا في كتابنا من حديث حسن فإنما أردنا بحسن إسناده عندنا كل حديث لا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًا، ويروى من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن”، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 416): “لا يُغتَر بتحسين الترمذي، فعند المحاققة غالبها ضِعاف”.

وبعد هذا البيان لمعنى الحسن عند الترمذي نعرف خطأ من ينتقد الترمذي من المتقدمين والمتأخرين على تحسينه لحديث في سنده راوٍ ضعيف أو انقطاع، فالترمذي لا يريد بالحديث الحسن ما هو مشهور عند العلماء المتأخرين بأنه ما كان متصل الإسناد بنقل العدل الخفيف الضبط السالم من الشذوذ والعلة، بل قد يقول الترمذي: (حديثٌ حسنٌ) أو يقول: (حسن غريب) في حديث فيه راوٍ ضعيف أو فيه انقطاع كما تقدم بيانه.

وهذه أمثلة لبعض من انتقدوا الترمذي على تحسينه لحديث فيه ضعف، وانتقادهم في غير محله:

  1. قال النووي في المجموع (3/460): “قال الترمذي: هو حديث حسن. وليس كما قال؛ لأن أبا عُبيدة لم يسمع أباه، ولم يُدرِكه باتفاقهم، وهو حديث منقطع”.
  2. قال النووي في المجموع شرح المهذب (1/ 274): “قال الترمذي: حديث حسن، هذا كلامه، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وأبو الشمال، والحجاج ضعيف عند الجمهور، وأبو الشمال مجهول، فلعله اعتضد بطريق آخر فصار حسنًا”.
  3. قال ابن الملقِّن في البدر المنير (6/ 522): “قال الترمذي: حديث حسن غريب، وفيه نظر، فإن مداره على الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وميمون لم يُدرِك عليًّا”.
  4. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 224): “حسَّنه الترمذي، وفيه نظر؛ لأنه من رواية شهر بن حَوشَب”.
  5. قال الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 311): “أما حديث ابن عمر فقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن ابن عمر. وقال الترمذي بعد أن ساقه: (هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم: أن الرجل إذا ملك زادًا وراحلة وجب عليه الحج، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه). انتهى من الترمذي. قال مقيده – عفا الله عنه وغفر له -: تحسين الترمذي رحمه الله لهذا الحديث لا وجه له؛ لأن إبراهيم الخوزي المذكور متروك لا يُحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد”.
  6.  قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (9/ 196): “قال الترمذي: حديث حسن. قلت: كذا قال، ولعله يعني أنه حسن لغيره، وإلا فعمارة هذا مجهول اتفاقاً”.
  7. في كتاب رياض الصالحين بتحقيق الألباني حديث رقم (1244): عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلُهم فِطرًا) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. قال الألباني في الحاشية: “قلت: في هذا التحسين نظر؛ لأن مدار إسناده على قُرَّة بن عبد الرحمن، وهو ضعيف لسوء حفظه”. انتهى كلام الألباني، والترمذي أراد بتحسين هذا الحديث أن سنده ليس فيه متَّهم بالكذب، ومعناه غير شاذ، ويروى من غير وجه، وهذا الحديث كذلك، فالراوي الذي تفرد برواية هذا الحديث – وهو قرة بن عبد الرحمن – ليس متَّهمًا بالكذب، وإن كان ضعيف الحفظ، وتعجيل الإفطار معروف في السنة النبوية، وروي من غير وجه عن عدة من الصحابة؛ فتوافرت في هذا الحديث الشروط الثلاثة التي جعلها الترمذي شروطًا للحديث الحسن عنده، فحسَّنه على اصطلاحه فأصاب، وهو لا يريد أنه حسنٌ باصطلاح غيره، وضعفه الألباني وأصاب في تضعيفه لأنه تفرد به راو ضعيف، ولكنه انتقد الترمذي على تحسينه ولم يُصِب في انتقاده.

وغالب الأحاديث التي يقول الترمذي فيها: (حديث حسن) أو يقول فيها: (حديث حسن غريب) تكون ضعيفة أو فيها عِلَّة قد تكون قادحة أو غير قادحة مثل الاختلاف في رفع الحديث ووقفه، وبعض الأحاديث التي يقول فيها الترمذي: (حديث حسن) أو (حديث حسن غريب) تكون أحاديث حسنة على اصطلاح غيره، فيها راو خفيف الضبط، مثل حديث رقم (2821).

وقد بيَّن الترمذي في كتابه العِلَل الصغير (ص: 758، 759) معنى الغريب فقال: “وما ذكرنا في هذا الكتاب: حديث غريب فإن أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان: رُبَّ حديث يكون غريبًا لا يُروى إلا من وجه واحد … ورُبَّ حديث إنما يُستغرَب لزيادة تكون في الحديث، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يُعتمد على حفظه، … ورُبَّ حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يُستغرَب لحال الإسناد”، فالحديث الذي يقول عنه الترمذي: (غريب) أنواع، قد يكون غريبًا لأن إسناده غريب لا يُروى به إلا ذلك الحديث الواحد، كحديثٍ تفرَّدَ به تابعي مجهول عن صحابي، ولا يُعرف لذلك التابعي والصحابي إلا ذلك الحديث فقط، فهذا حديث غريب لإسناده، ويكون ضعيفًا لا يصح، وقد يكون غريبًا لأن متْنَهُ لا يُروى إلا بذلك الإسناد فقط، وإن كان الإسناد مشهورًا تُروى به أحاديث كثيرة، فإن كان رجال الإسناد ثقات فهو حديث صحيح مع غرابته حيث لم يُروَ بغير ذلك الإسناد، وقد يكون الحديث غريبًا لأن في مَتْنِه زيادة غريبة غير مشهورة في أكثر روايات ذلك الحديث، فيكون الحديث في نفسه مشهورًا لكن يزيد بعض الرواة في متْنِه زيادة تُسْتَغْرَب، فإن كان الذي زادها إمامٌ حافظٌ يُعتمد على حفظه قُبِلت زيادته، وبعضهم قد يتوقف في قبولها، وقد يكون الحديث غريبًا من حديث صحابي، وإن كان مشهورًا من حديث غيره من الصحابة، فيُستغرَب من حديث صحابي بعينه لأنه لا يُعرف عنه إلا بذلك الإسناد الواحد الذي تفرد به بعض الرواة، ومتنُه صحيحٌ مشهور بأسانيد أخرى عن صحابة آخرين، وقد يكون الحديث معروفًا عن صحابي بإسناد مشهور أو بعِدة أسانيد مشهورة، ويتفرد بعض الرواة بروايته عن نفس الصحابي بإسناد غريب غير مشهور، فيقال عن ذلك الإسناد الغريب: حديث غريب، وإن كان الحديث صحيحًا بأسانيد أخرى مشهورة. يُنظر بيان ذلك مع الأمثلة في شرح عِلَل الترمذي لابن رجب (2/ 627 – 652).

وبهذا يُعلم أن الغرابة في الحديث أنواع، قد تكون الغرابة في أصل الإسناد الذي فيه الصحابي، وقد تكون الغرابة لأنه لا يُروى متن الحديث إلا بإسنادٍ واحد تفرد به بعض الرواة، وقد تكون الغرابة في أثناء الإسناد بتفرد راوٍ عن شيخه، وإن كان للحديث طرق أخرى، وقد تكون الغرابة في المتن بزيادةٍ زادها بعض الرواة في المتن، ومن الغرابة ما يكون الحديث معها صحيحًا، ومنها ما يكون الحديث معها ضعيفًا.

وإذا قال الترمذي عن حديث: (غريب) من غير أن يُصحِّحه أو يُحسِّنه فغالبًا يكون الحديث ضعيفًا لا يصح، وقد يُصرِّح الترمذي بضعفه مثل حديث رقم (54) قال الترمذي: “هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي يُضعَّفان في الحديث”، وقال الترمذي بعد حديث (57): “حديث أُبي بن كعب حديث غريب، وليس إسناده بالقوي“.

وقد يقول الترمذي عن حديث: (حسن غريب) ويُصرِّح بضعفه، مثل قوله في حديث رقم (2505): “هذا حديث حسن غريب وليس إسناده بمتصل”.

وقد يقول الترمذي: (حديث حسن غريب) ويكون الحديث حسنًا لذاته، وليس هذا على إطلاقه. يُنظر: النكت الوفية للبقاعي (1/ 228)، الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين لنور الدين عتر (ص: 186)، سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/ 185).

وقد يقول الترمذي: (حديث حسن غريب) ويكون الحديث حسنًا لغيره لمجموع طرقه وشواهده، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (18/ 24): “الترمذي إذا قال: حسن غريب قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق، ولكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحَسَن”. ويُنظر: النكت الوفية للبقاعي (1/ 229).

وقد يقول الترمذي: (حديث حسن غريب) ويكون الحديث في الصحيحين أو أحدهما، وليس في سنده من خفَّ ضبطُه، وهذا نادر جدًا، مثل حديث رقم (28) قال عنه الترمذي: “حسن غريب” وهو في صحيح البخاري (191) وصحيح مسلم (235).

وقد استشكل العلماء وصف الترمذي للحديث الذي يُحسِّنه بأنه غريب، قال الحافظ ابن حجر في نُزهة النَّظَر في توضيح نُخبة الفِكَر (ص: 80): “فإن قيل: قد صرَّح الترمذي بأن شرط الحسن أن يروى من غير وجه فكيف يقول في بعض الأحاديث: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؟! فالجواب: أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقًا، وإنما عرَّف نوعًا خاصًا منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه: حسن، من غير صفة أخرى؛ وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث: حسن. وفي بعضها: صحيح. وفي بعضها: غريب. وفي بعضها: حسن صحيح. وفي بعضها: حسن غريب. وفي بعضها: صحيح غريب. وفي بعضها: حسن صحيح غريب. وتعريفه إنما وقع على الأول فقط، وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه: (وما قلنا في كتابنا: حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا: كل حديث يروى، لا يكون راويه متهمًا بكذب، ويروى من غير وجه نحو ذلك، ولا يكون شاذًا فهو عندنا حديث حسن). فعُرف بهذا أنه إنما عرَّف الذي يقول فيه: حسن، فقط، أما ما يقول فيه: حسن صحيح، أو: حسن غريب، أو: حسن صحيح غريب، فلم يُعرِّج على تعريفه، كما لم يُعرِّج على تعريف ما يقول فيه: صحيح، فقط، أو: غريب، فقط، وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عند أهل الفن، واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه: حسن، فقط؛ إما لغموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد؛ ولذلك قيده بقوله: عندنا، ولم ينسبه إلى أهل الحديث، وبهذا التقرير يندفع كثير من الإيرادات التي طال البحث فيها، ولم يسفر وجه توجيهها، فلله الحمد على ما ألهم وعلم”.

وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (18/ 39، 40): “أما الحسن في اصطلاح الترمذي فهو ما روي من وجهين، وليس في رواته من هو متَّهم بالكذب، ولا هو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فهذه الشروط هي التي شرطها الترمذي في الحسن، لكن من الناس من يقول: قد سمَّى حسنًا ما ليس كذلك، مثل حديث يقول فيه: حسن غريب؛ فإنه لم يُرو إلا من وجه واحد، وقد سمَّاه حسنًا! وقد أجيب عنه بأنه قد يكون غريبًا لم يرو إلا عن تابعي واحد لكن روي عنه من وجهين فصار حسنًا لتعدد طرقه عن ذلك الشخص، وهو في أصله غريب، وكذلك الصحيح الحسن الغريب قد يكون لأنه روي بإسناد صحيح غريب، ثم روي عن الراوي الأصلي بطريق صحيح وطريق آخر فيصير بذلك حسنًا مع أنه صحيح غريب؛ لأن الحسن ما تعددت طرقه، وليس فيها متَّهم، فإن كان صحيحًا من الطريقين فهذا صحيح محض، وإن كان أحد الطريقين لم تُعلم صحته فهذا حسن، وقد يكون غريب الإسناد فلا يعرف بذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه وهو حسن المتن؛ لأن المتن روي من وجهين؛ ولهذا يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، فيكون لمعناه شواهد تبين أن متنه حسن وإن كان إسناده غريبًا. وإذا قال مع ذلك: إنه صحيح؛ فيكون قد ثبت من طريق صحيح وروي من طريق حسن فاجتمع فيه الصحة والحسن، وقد يكون غريبًا من ذلك الوجه لا يعرف بذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه”.

وهذان مثالان فيهما وصف الترمذي الحديث الذي يصححه أو يُحسِّنه بأنه غريب لتفرد بعض الرواة به في أثناء السند:

قال الترمذي بعد حديث (2201): “هذا حديث صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث حماد بن زيد عن المعلى”.

وقال الترمذي بعد حديث (720): “حديث أبي هريرة حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس، وقال محمد [هو البخاري]: لا أُراه محفوظًا، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح إسناده”، فحكم الترمذي على هذا الحديث بأنه حسن غريب لتفرد عيسى بن يونس به عن هشام، وإن كان الحديث قد روي من طرق أخرى، وحكم بضعفه، وأنه لا يصح إسناده.

وإذا قال الترمذي عن حديث: (حسن صحيح) فالظاهر أنه يريد أنه صحيح لاتصال إسناده بنقل العدول الثقات من غير شذوذ ولا علة، وأضاف أنه حسن إذا كان لا يخالف الأحاديث الصحيحة، وكان معناه يُروى من غير وجه عن صحابة آخرين، وقد تقدم كلام ابن رجب أن شرط الحديث الحسن عند الترمذي أن لا يكون شاذًا مخالفًا للأحاديث الصحيحة، وأن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة، فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفاظ فالحديث حينئذ حسن صحيح، وكلام الحافظ ابن رجب في تفسير قول الترمذي: حسن صحيح أولى مما ذكره الحافظ ابن حجر في نُخبة الفِكَر (ص: 7) أن جمع الوصفين: حسن صحيح للتردد في بعض الرواة حيث التفرد وإلا فباعتبار إسنادين أحدهما حسن، والآخر صحيح، والله أعلم.

وقد يقول الترمذي عن حديث: (حسن صحيح غريب) وهو حديث صحيح الإسناد بنقل الثقات، ووصفه بأنه غريبٌ لتفرد راوٍ به عن بعض الرواة، وإن كان يروى ذلك الحديث أو معناه من طرق أخرى، مثال ذلك:

حديث رواه الترمذي (1670) من طريق المعتَمِر بن سليمان التيمي عن أبيه عن أبي إسحاق السَّبِيعي عن البرَاء بن عازِب رضي الله عنهما أنه لما نزلت آية سورة النساء: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن أم مكتوم الأعمى: هل لي مِنْ رخصة؟ فنزلت: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، قال الترمذي بعد رواية هذا الحديث عن البراء: “وفي الباب عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت، وهذا حديث حسن صحيح غريب من حديث سليمان التيمي عن أبي إسحاق، وقد روى شعبة والثوري عن أبي إسحاق هذا الحديث”، فهذا الحديث صححه الترمذي لاتصال إسناده بنقل الثقات العدول، من غير شذوذ ولا علة، وحسَّنه لأن معناه غير شاذ، ولأنه روي من غير وجه، فقد رواه البخاري (2831) ومسلم (1898) من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن البراء، ورواه البخاري أيضًا (4594) من طريق إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق عن البراء، ورواه مسلم أيضًا (1898) من طريق مِسعَر عن أبي إسحاق عن البراء، ورواه البخاري (2832) ومسلم (1898) من حديث زيد بن ثابت بنحو حديث البراء، ورواه الترمذي (3032) والنسائي في السنن الكبرى (11052) من حديث ابن عباس بنحو حديث البراء، وجاء ما يؤيد معنى هذا الحديث من حديث جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: ((إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ)) رواه مسلم في صحيحه (1911) وأحمد في مسنده (14208) وغيرهما، فحديث البراء بن عازب صححه الترمذي وحسَّنه لكونه غير شاذ في معناه، ولمجيئه من طرق كثيرة بلفظه أو بمعناه، وإنما حكم عليه الترمذي بالغرابة لتفرد المعتمِر بن سليمان به عن أبيه، فلم يروه عن سليمان التيمي أحدٌ غير ابنه المعتمِر؛ ولذا قال الترمذي: “حديث حسن صحيح غريب من حديث سليمان التيمي عن أبي إسحاق”، وإن كان هذا الحديث جاء من طرق كثيرة عن أبي إسحاق، وروي من حديث غير واحد من الصحابة بلفظه أو بمعنى موضوعه المتعلق بالمعذورين في الجهاد؛ ولذلك قال الترمذي بعد أن ذكره بإسناده ومتنه: “وفي الباب عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت”، والله أعلم.

فهذا ما يسر الله تلخيصه في بيان مصطلحات الترمذي في التحسين والتصحيح والغرابة، وعلى كل حال فالترمذي إمام من أئمة الحديث، وقد بيَّن مصطلحه إذا قال: حديث حسن، وبيَّن أنواع الحديث الغريب، ولم يبين مصطلحه إذا قال: حسن صحيح، أو قال: حسن غريب، أو قال: حسن صحيح غريب؛ ولذلك اختلف العلماء في تفسير مراده بهذه المصطلحات، والعبرة في كل حديث بالنظر في إسناده ومتنه بعد جمع طرقه، والترمذي غالبًا يوافق غيره من كبار المحدثين في التصحيح والتضعيف، وتوجد أحاديث مختلف في تصحيحها وتضعيفها بين علماء الحديث، يختلفون فيها لاختلاف اجتهادهم في حال الراوي واختلاف نظرهم في كون العلة قادحة أو لا، واختلاف نظرهم في كون المتابعات والشواهد كافية لتصحيح الحديث أو لا، ونحو ذلك من الأمور الاجتهادية، والترمذي حافظ  كبير مجتهد في الحديث، وأقواله معتبرة، وقد يخالفه غيره في التصحيح والتضعيف، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (18/ 24): “بعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويُحَسِّنه”، وبعض العلماء وصف الترمذي بالتساهل في التصحيح، وذلك ظاهر في أحاديث قليلة صححها وفيها ضعف ظاهر، لكن لا يصح إطلاق الحكم على الترمذي بالتساهل في التصحيح، وإنما تساهل الترمذي في أحاديث قليلة رأى صحتها، وأكثر علماء الحديث يرون ضعفها، قال ابن القيم في زاد المعاد (2/ 317): “الترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح”، وقال ابن القيم أيضًا في الفروسية (ص: 243): “الترمذي يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها”، وأما قول الذهبي في ميزان الاعتدال (3/ 407): “لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي” فإنه قول غير مقبول على إطلاقه، وقد رده غير واحد من العلماء، قال الحافظ العراقي: “ما نقله عن العلماء من أنهم لا يعتمدون تصحيح الترمذي ليس بجيد، وما زال الناس يعتمدون تصحيحه”، ويُنظر: توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لابن الأمير الصنعاني (1/ 156) وابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها لجمال السيد (1/ 371، 372)، وتبقى أقوال الإمام الترمذي لها اعتبارها في التصحيح والتحسين والتضعيف، مع الانتباه لمصطلحه الخاص في التحسين، والله أعلم.

 

 

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

طرقات النسيان – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة ذكرى وفاء، على طرقات النسيان ما أبهى تلك الزيارات في ميزان الوفاء، وما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *