منذ حوالي ساعة
يا لله! ما أعجب هذا القبس النبوي القصير، وما أوسع ما يحمله من المعاني! قبس من كلمتين، ولكنه يزن حياة الإنسان كلَّها، ويختصر طريقه بين الجنّة والنار: «والقرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك» .
يا لله! ما أعجب هذا القبس النبوي القصير، وما أوسع ما يحمله من المعاني! قبس من كلمتين، ولكنه يزن حياة الإنسان كلَّها، ويختصر طريقه بين الجنّة والنار: «والقرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك» .
تأملوا، أيها الإخوة، إنّه ليس كلامَ واعظٍ يذكِّرك، ولا حكمةَ حكيمٍ يرشُدك، بل هو قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى. فهل بعد ذلك عذر لمعتذر؟ أو سبيل لمتأوِّل؟
إنّنا جميعًا سنقف يومًا ما بين يدي الله، لا ينفعنا مالٌ ولا ولد، ولا يحول بيننا وبين السؤال أحد، وهناك يُرفع القرآن شاهدًا، فإن كنا له أوفياء، كان لنا نورًا وسندًا، وإن كنا عنه معرضين، صار علينا خصمًا عنيدًا، لا يرحمنا عتابُه، ولا نملك دفعَ شهادته.
الحجة في لغة العرب هي البرهان القاطع الذي لا يُدفع، وهو السلاح الذي يفصل بين الحق والباطل. فإذا كان القرآن حجةً للعبد، صار كالدرع يقيه من العذاب، وكالضياء يقوده في دروب الآخرة، حتى يبلغ مأمنه عند الله. قال تعالى: {﴿هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} ﴾ [آل عمران: 138] . وأما إن كان حجةً عليه، فهو الخصم الذي لا يُدحض كلامُه، ولا يُردّ برهانه، يشهد على العبد أنّه قد قرأ الآيات، وسمع المواعظ، ورأى دلائل الحق، ثم أعرض عنها عمداً أو غفلةً، وتأملوا! كتاب الله إمّا دليلاً لصاحبه أو شاهداً عليه. فالقرآن فهو كلامُ ربّ العالمين، لا يزول أثره بمضيّ الأزمان، بل يرافق قارئه حتى يلقى الله. فإن جعلته حجتك، نجاك، وإن أهملته، صار عليك لا لك.
إنّ القلب بلا قرآن قلبٌ خاوٍ، يضجّ بالآلام وإن ملك الدنيا بحذافيرها، كما أنّ الجسد بلا روحٍ جثة هامدة لا حراك لها. قال الله تعالى: {﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾} [الشورى: 52] . فجعل القرآن روحًا تُحيي القلوب، وتوقظ الضمائر، وتنير البصائر.
تأملوا أولئك الذين عاشوا مع القرآن: كيف كانوا قبل أن يشرق في قلوبهم؟ كانوا أعرابًا متنازعين، غارقين في الجاهلية، يأكل القويُّ ضعيفَهم. ثم لما مسّت قلوبهم آياتُ الله، تبدّلوا رجالاً يصنعون حضارةً خالدة، ويؤسّسون أمةً لم يعرف التاريخ مثلها. وما ذلك إلا لأنهم جعلوا القرآن حياةً لهم.
لكن انظروا إلى حالنا اليوم! كثيرون يضعون المصحف في صدور المجالس، أو يعلّقون آياته في بيوتهم، ولكن قلوبهم خالية منه، وسلوكهم بعيد عن هديه. يفرحون بحسن الصوت في التلاوة، ولكنهم لا يسألون أنفسهم: هل سكنت معانيه قلوبنا؟ هل غيّر مسار حياتنا؟ إنّ القرآن ليس مجرد تلاوة شجيّة، بل هو زادٌ للطريق، ومنهجٌ للحياة، وسرّ النجاة.
كثيرون يظنون أن كثرة التلاوة وحدها تكفي، وأن عدد الختمات هو المقياس، في حين أنّ العبرة في القرآن ليست بالكمّ وإنما بالكيف. لا تكن ممن يقرأ آيات النهي فلا ينزجر، ويقرأ آيات الأمر فلا يمتثل.
القرآن كتاب عمل لا كتاب حفظٍ وترديد فقط. إذا قرأتَ: { ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾} [العنكبوت: 45] ، فهل صلاتك نَهَتك؟ وإذا مررتَ بقوله: { ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾} الحجرات: 10، فهل عفوتَ عمّن ظلمك، وهل أزلتَ من قلبك أحقادك؟ وإذا تلوتَ: {﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾} [الحجرات: 12] ، فهل أمسكتَ لسانك عن الغيبة، التي قلّ أن يسلم منها احد؟ القرآن ميزانٌ للأعمال، ومِرآة للقلوب. فإن وجدت نفسك تخالفه، فاعلم أن حجّته عليك لا لك، وأنك في خطر أن يأتي يوم القيامة شاهداً ضدّك لا معك.
لقد قال الله عن قومٍ: {﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾} الفرقان: 30. وهل تدري ما معنى الهجر هنا؟ إنّه لا يقتصر على ترك التلاوة، بل يشمل ترك التدبّر، والإعراض عن العمل، والانصراف إلى ما يخالفه. وما أكثر المهجورين للقرآن في زماننا، يرفعونه شعارًا، ويقصّرون عن العمل به حقيقةً.
إياك أن تكون من صنف قرأوا بألسنتهم ولم يصدقوه بجوارحهم، سمعوه كل جمعة ولم يحركوا به قلوبهم، رفعوه على الرفوفه ولكن لم يرفعوا به حياتهم.
النجاة واضحة الطريق، لا غموض فيها ولا التباس: أن تجعل القرآن منهج حياتك. أن تفتحه كل يوم لا لمجرد التلاوة، بل لتأخذ منه توجيهًا للعمل. أن تراه في عبادتك هاديًا، وفي معاملاتك رقيبًا، وفي شدائدك معينًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه” رواه مسلم.
فيا من تبحث عن السعادة! اجعل القرآن شريكك في الحياة. ويا من تخاف من الموت! اجعل القرآن مؤنسك في الوحشة. ويا من ترجو الفوز بالجنة! اجعل القرآن حجتك عند الله. فليس لك طريق إلى الفلاح إلا أن تعمل بالقرآن، وتسير معه حتى تلقى الله.
ولنا هنا وقفات مع هذه الموعظة البليغة، ألا وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «( والقرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك)» :
- القرآن حجّة الله على عباده، فمن جعله دليله في الحياة كان له نوراً وسبيلاً إلى الجنة، وإن أعرض عنه أو جعله وراء ظهره صار شاهداً عليه يوم القيامة لا محالة، فيا ليت شعري! هل تريد القرآن خصماً لك أم شفيعاً لك بين يدي الله؟
- التلاوة وحدها لا تكفي، فكم من لسان يقرأ ولا يتجاوز القرآن تراقيه، القرآن إنما أنزل ليُتدبر ويُعمل به في واقع الحياة لا ليُتلى فقط، قال تعالى: {﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ } [ص: 29] .
- من جعل القرآن رفيقه في كل شأن، وجده قائداً إلى الخير ومانعاً من الشر، فالقرآن يهدي للسلوك القويم ويزكّي النفوس ويهذّب الأخلاق، ومن ثمراته العظمى أنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه وحجة للعامين به.
- أعظم الخسران أن يُتلى القرآن على العبد ثم يبقى قلبه جامداً، يسمع المواعظ ولا يتأثر، ويقرأ النواهي ثم يقع فيها بلا وجل، فهذا حجاب عن نور الله، وعلامة أن القرآن صار حجة عليه لا له.
- شهادة القرآن يوم القيامة شهادة حقّ لا تُرد ولا تُكذّب، فهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فويلٌ لمن كان خصمه القرآن بين يدي الملك الديّان.
- هجر القرآن له صور كثيرة: منها ترك التلاوة، ومنها ترك التدبر، وأخطرها هجر العمل بأوامره والانقياد لنواهيه، فمن وقع في ذلك فقد هجر أعظم وصية أنزلها الله للبشرية.
- النجاة الحقيقية أن تجعل القرآن رفيقك ودليلك في الطريق، فهو أنيس في الدنيا، ورفيق في القبر، وشفيع يوم القيامة، أما من أعرض عنه، فلن يجد إلا وحشةً في الدنيا وخصومةً في الآخرة.
أيها الأحبّة، إنّ القرآن إمّا أن يكون رفيقك أو خصمك، إمّا أن يقودك إلى النور أو يدفعك إلى الظلمات. فلا تجعل بينك وبينه حجابًا، ولا تكن من أولئك الذين يقرأونه بألسنتهم، ثم تخالفه أعمالهم. اليوم بين يديك فرصة، وغدًا قد لا تجدها. أكثر من سؤال الله أن يجعل القرآن لك لا عليك، قال تعالى: {﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾} [طه: 123] ، فيا من يسمع هذه الكلمات، اجعلوا القرآن في قلوبكم قبل أن يُقال لكم: كان القرآن معكم فلم تعملوا به، فصار عليكم لا لكم. إنّها حياة أو موت، نجاة أو هلاك، فلا تخطئوا الطريق، وتذكر دائمًا أن «(القرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك)» .
Source link