إنّ المباهاةَ قتّالة، تقتل البراءةَ في الصغار، والتكافلَ في الكبار، وتُفسدُ صِلات المجتمع وأواصره. ولن ينجوَ منها جيلُنا إلا إذا أعدنا تعريفَ النجاح والرفعة في عقول أبنائنا
زرتُ أحدَ كبار أصدقائي، من أولئك الذين صقلتهم التجارب وعركتهم السنون، فقال لي متنهّدًا: “عجيبٌ زمانُنا هذا! فقد كنّا – ونحن صغار – يزاملُ ابنُ الغنيِّ ابنَ الفقيرِ في سنوات الدراسة الطوال، والحقيبةُ هي الحقيبة، والثوبُ هو الثوب، ووجبةُ الفسحةِ هي الوجبة. لم نكن نرى تعاليَ ابن الغني على فرط غناه، ولا انكسارَ ابن الفقير على شدة فقره، بل كنا نعيشُ في بساطةٍ تُنمّي فينا المودّة، وتُعلّمنا معنى الكرامة والاحترام والعزة”.
ثم سكتَ قليلًا وقال بحرقةٍ: “أمّا اليومَ، فقد قتلت أبناءَنا المباهاة! صار صغيرنا قبلَ الكبيرِ يريدُ أن يتميّز على زميله بحذائه قبل قلمه، وبماركة ثيابه الداخلية قبل الخارجية، وبصورة طعامه في بيته قبل أدبه في مدرسته!.
لقد تحوّلت اهتماماتُ طلابنا من تحصيل المعرفة وتلقّي الأدب وحسن السمت عن المعلمين، إلى التفاخر بالمظاهر والتعالي على المعوزين، حتى غدت مدارسُنا – إلا من رحم الله – مراكزَ لتزيين القشور وصناعة الانتفاخ، لا لتجويد العقول، والتربية على معالي الأخلاق، ومصانعَ لتفخيم الأنا لا لتربية النفس.”
قلتُ له: صدقتَ، فالمشكلةُ عميقةٌ في جذورها، متشعّبةٌ في مظاهرها، والحلّ لا تملكه جهةٌ واحدة. إنما هو مسؤوليةٌ مشتركة بين المدرسة، وإدارات التعليم، والأسرة. فلابدّ من إعادة الاعتبار للتربية قبل التعليم، وغرسِ معاني التدين الصحيح الذي يورث التواضع، وإحياءِ القدوة الحسنة في المعلمين والآباء، وصياغةِ بيئاتٍ مدرسيةٍ وعائليةٍ تُعلي من شأن الخُلُق والعلم لا من بريق المظاهر.
ويزداد الخطرُ جسامةً حين نرى المباهاةَ وقد تحوّلت من سلوكٍ فرديٍّ إلى تيارٍ اجتماعيٍّ جارِف، يتسلّل إلى الأسر الممتدة، والمجالس، ومناسبات الأفراح، وحتى مجالات الخير والدعوة. الكلُّ يريد أن يُرى، وأن يُشادَ به، وأن يُصوَّر!
وهنا تتضاعفُ مسؤوليةُ الأبوين والمربين، في التوجيه والنصح والقدوة، وفي غرس القناعة والتواضع في نفوس الأبناء، قبل أن تستبدّ بهم أمراضُ المقارنة والغيرة والحسد، فيُصبحوا أسرى لمعايير زائفة تُطفئُ نورَ الفطرة، وتفسد العقل، وتُميتُ معنى الإخاء والإحسان.
إنّ المباهاةَ قتّالة، تقتل البراءةَ في الصغار، والتكافلَ في الكبار، وتُفسدُ صِلات المجتمع وأواصره. ولن ينجوَ منها جيلُنا إلا إذا أعدنا تعريفَ النجاح والرفعة في عقول أبنائنا، فقلنا لهم: بأن الرفعة لا تكون إلا بالتمسك بالدين لا باللهث خلف الدنيا وزخارفها. وبتحصيل العلم النافع وإتيان العمل الصالح لا بالاستكثار من العلامات التجارية في المسكن والملبس، وبالأخلاق، لا بالمظاهر الزائفة والبراقة، وبالجوهر النفيس، لا بالصور المتقلبة.
وبأن الله يختبر الفقير بفقره ليرى صبره وقناعته بما رزقه وفرحه بالخير لأخيه، ويبتلي الغني بكثير ما أعطاه ليرى شكره وكرمه وتواضعه وإحسانه.
فاللهم أصلح نياتنا، واغرس في ناشئتنا حسن الخلق وخلال الأدب، وفي قلوبهم حبّ البساطة والتواضع والقناعة والإحسان، واجعل لهم من القناعة غنى، ومن الأدب زينة، ومن العلم نورًا وهُدى.
والله الهادي
Source link
