البعض يظن أن السعادة في المأكل والمشرب، والملبس والمركب، أو في المناصب، أو الوظائف، وغير ذلك من متع الدنيا الزائلة، والحقيقة أنه لا طريق للسعادة إلا في الإيمان والعمل الصالح
لو سألنا كلَّ إنسان في هذه الحياة: ماذا تريد؟
لقالوا جميعًا: نريد السعادة.
فالسعادة هدف تنشُده جميع القلوب، وتسعى إليه كل النفوس، ما فينا أحد إلا وهو يريد أن يكون سعيدًا.
فيا تُرى أين السعادة؟
وهل وصل جميع البشر لتحقيق مرادهم بالحصول على السعادة؟
بعض الناس يرَون أن السعادة في المال، فيقضون أعمارهم راكضين وراء الأموال؛ يجمعونها من هنا وهناك، وهم لا يعرفون أن من أصحاب الأموال من يعاني من الاكتئاب، ولا يشعر بمعنى السعادة، ولا يذوق طعم الراحة، وإن مرَّت عليه بعض لحظات السعادة، فهي سعادة مؤقتة، وفي النهاية يدرك أن هذا المال لم يُسْعِده في الدنيا، وكذلك لن ينفعه في الآخرة، إن كان جمعه من حرام، أو أنفقه في حرام، أو كان من الأشقياء، فلن يغنيَ عنه ما جمعه من مال؛ بل يقول يوم القيامة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28، 29].
البعض يظن أن السعادة في المأكل والمشرب، والملبس والمركب، أو في المناصب، أو الوظائف، وغير ذلك من متع الدنيا الزائلة، والحقيقة أنه لا طريق للسعادة إلا في الإيمان والعمل الصالح؛ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
السعادة في حلقات القرآن: في مدارسته وتلاوته، نعيش مع معانيه، نقف عند عجائبه، تغشانا الرحمة، تحفُّنا الملائكة، تتنزل علينا السكينة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشِيَتْهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»[1].
وقال أيضا: «يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْقَ، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها»[2].
{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
السعادة في طاعة الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
فالحياة الحقيقية، الحياة السعيدة إنما تحصُل بالاستجابة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الأحياء، أما غيرهم فهم أموات: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]؛ كان ميتًا بالكفر والجهل والعصيان، فأحييناه بنور العلم والإيمان، صار يمشي في الناس مستبصرًا في أموره، مهتديًا في طريقه، عالمًا بالخير، حاذرًا طريق الشر: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14].
ليس هذا مختصًّا بالآخرة فقط، بل هم في نعيم في دُورِهم الثلاثة؛ في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة؛ نعيم الإيمان، ونعيم القرب من الرحمن.
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] صاحب المعصية صدره ضيِّقٌ حرج، وإن تنعَّم ظاهره، ولبِس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، يشعر في قلبه الوحشة والحسرة، لا تقر العين إلا بالله، ولا تطمئن النفس إلا بالله؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا»[3].
السعادة في حلقات العلم ومجالس العلم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة، فارتعوا»، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «حِلَقُ الذكر»[4].
إنه العلم ميراث الأنبياء، خير من ميراث الذهب والفضة، يحرس صاحبه، وصاحب المال هو الذي يحرسه.
العلم ينفع صاحبه في الحياة وبعد الممات؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[5].
إنه العلم؛ تعلُّمُه لله خشية، وطلبه عبادة، والبحث عنه جهاد، وتعليمه للناس صدقة، وبذله لأهله قربة، هو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، به يُطاع الله تعالى، وبه يُعبَد، وبه يُوحَّد، وبه يُمجَّد، وبه تُوصَل الأرحام، ويُعرَف الحلال والحرام، يُرْزَقه السعداء، ويُحرَم منه الأشقياء.
العلم هو طريق الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم لَيستغفر له من في السماوات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا، ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»[6].
السعادة في الدعوة إلى الله تعالى وظيفة الأنبياء:
قال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب يوم خيبر: «فوالله لأن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَمِ»[7]، وحمر النعم: أي: خيارها وأعلاها قيمة، وهو من ألوان الإبل المحمود.
السعادة في التخفيف عن الآخرين والسعي في مصالح المسلمين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا، ومن كفَّ غضبه، ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزِل الأقدام، وإن سوء الخلق لَيفسد العمل، كما يفسد الخل العسل»[8].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحوَّلها إلى غيرهم»[9].
السعادة في الصحبة الصالحة:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيَك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرَفت أنك إذا دخلت الجنة، رُفِعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة، خشيتُ ألَّا أراك، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69][10].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: «ما أعددت لها» ؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت»[11].
فإذا كنت مع أهل القرآن وأصحاب العلم النافع، والعمل الصالح، وأهل الدعوة إلى الله عز وجل، الذين يصلحون أنفسهم، ويصلحون مَن حولهم، ويدعون إلى الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويصلحون ما أفسده الناس، كما كنت معهم في الدنيا، تكون بإذن الله تعالى معهم في الآخرة؛ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].
أحب الصالحين ولست منهم ** لعليَ أن أنال بهم شفاعــةْ
وأكره من تجارته المعاصــي ** ولو كنا سواءً في البضاعةْ
قال صلى الله عليه وسلم: «أوثق عُرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل»[12].
ما أجمل الأُخوة في الله، الصحبة الصالحة التي تحلو بها الحياة!
قال الله تعالى: «المتحابون في جلالي لهم منابرُ من نور، يغبِطهم النبيون والشهداء»[13].
وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى»، قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لَنورٌ، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزِن الناس» ؛ وقرأ هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62][14].
كان محمد بن واسع يقول: “لم يبقَ من حلاوة العيش إلا ثلاث: الصلاة في جماعة، وكفاف من معاش، وأخ يحسن المعاشرة”.
السعادة في سلامة الصدر ونقاء القلب:
ولذلك كان من دعاء المؤمنين؛ كما ذكر الله تعالى عنهم في كتابه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان»، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغيَ، ولا غلَّ، ولا حسدَ»[15].
إحدى الفنانات المشهورات كانت تقول بعد أن تابت وارتدت الحجاب واعتزلت العمل الفني: “كان يومي يضيع دون أي احساس بالسعادة، ودون أن أشعر بالسلام، والآن ليس لدي وقت، هناك أمور كثيرة نافعة عليَّ اللحاق بها، لقد وجدت السلام الداخلي”.
من كلمات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، التي تعبر عن معنى السعادة الحقيقية: “إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة”؛ (الجواب الكافي لابن القيم).
“ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رُحْتُ، فهي معي، لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة”؛ (الوابل الصيب).
“المحبوس من حُبِس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه”؛ (الوابل الصيب).
نسأل الله أن يرزقنا السعادة في الدنيا والآخرة.
[1] صحيح مسلم (2699). [2] صحيح الترغيب (1426). [3] أخرجه مسلم (34) باختلاف يسير، والترمذي (2623)، وأحمد (1779) واللفظ لهما. [4] صحيح الترمذي (3510)، حديث حسن. [5] صحيح مسلم (1631). [6] صحيح الجامع (6297). [7] صحيح البخاري (3701). [8] صحيح الجامع (176)، حديث حسن، أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط) (6026)، وأبو الشيخ في (التوبيخ والتنبيه) (97) باختلاف يسير. [9] صحيح الترغيب (2617)، حسن لغيره. [10] السلسلة الصحيحة للألباني 6 /1044. [11] صحيح البخاري (6171). [12] صحيح الجامع (2539). [13] صحيح الجامع (4312). [14] صحيح أبي داود (3527). [15] صحيح ابن ماجه (3416).
___________________________________________________________
الكاتب: نجلاء جبروني
Source link