منذ حوالي ساعة
تكشف صور الحرائق المروعة في فرنسا والاحتجاجات العنيفة في الشوارع حقيقة الانقسام الذي يعيشه المجتمع الفرنسي، نتيجة عدم احترام السياسيين والنخبة للتنوع الديني والعرقي
تكشف صور الحرائق المروعة في فرنسا والاحتجاجات العنيفة في الشوارع حقيقة الانقسام الذي يعيشه المجتمع الفرنسي، نتيجة عدم احترام السياسيين والنخبة للتنوع الديني والعرقي، ورفض حقوق المواطنة لغير الفرنسيين البيض، فما جرى هو حصاد سياسات وممارسات دوائر متعصبة من النخبة التي تتحرك بغريزة عدوانية، ضد أبناء الأفارقة والعرب المسلمين دون مبالاة بالعواقب.
الحرائق في المدن الفرنسية لم تكن مفاجئة، وهذه الحشود من الشباب صغير السن التي تتدفق إلى الشوارع أرادوا أن يُسمع صوتهم بعد أن سُدت أبواب التعبير السلمي، وهذا الغضب نتيجة طبيعية للعنصرية والممارسات العنيفة، التي تتعرض لها الأقليات منذ سنوات، وكل العقلاء الفرنسيين يعلمون أن الاضطهاد الممنهج على أيدي الشرطة الفرنسية سيصل بالبلد إلى الانفجار.
مشاهد الفيديو التي شاهدناها هذا الأسبوع عن الحرائق والاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الشرطة على مواقع التواصل تشبه المشاهد التي جاءت في فيلم “أثينا” الذي أنتجته “نتفيلكس” العام الماضي، والذي يحكي ذات القصة المكررة، عن قتل الشرطة لشاب من أصول عربية يتبعه تظاهرات واحتجاجات، وعنف عشوائي في الشوارع ضد كل ما يرمز للدولة، والفيلم لا يتنبأ بما حدث بقدر ما يعكس حالة الاحتقان والغضب.
إذا كان الفيلم قد حاول تحسين صورة الشرطة الفرنسية بأن أظهر أن الذين قتلوا الصبي المسلم مجموعة من اليمين المتطرف، ارتدوا ملابس الشرطة ليشعلوا حربا أهلية، تكون مبررا لطرد غير الفرنسيين -حسب ظنهم- فإن الذي قتل نائل المرزوقي من الشرطة التي تدار الآن من اليمين المتطرف، ولأن الجريمة مكررة والغضب متراكم بسبب حوادث قتل أخرى بذات الطريقة (13 حالة قتل في 2022) كان الانفجار الشعبي الذي شارك فيه فرنسيون بيض غاضبون.
لم تكن جنازة الشاب نائل المرزوقي التي شارك فيها عشرات الآلاف من الشباب على الدراجات النارية إلا تعبيرا عن رفض قطاعات واسعة في فرنسا لعنف الشرطة الذي أصبح ظاهرة مرعبة تتناولها تقارير المنظمات الحقوقية الفرنسية والعالمية، في ظل القوانين العنصرية التي تم سنها في السنوات الأخيرة لإعطاء مشروعية للتمييز ضد أحفاد وأبناء المهاجرين من أبناء الأفارقة والعرب.
سجل أسود لفرنسا:
لا تخلو التقارير السنوية لمنظمات حقوق الإنسان من إدانة سلوك الحكومة الفرنسية واتهامها بعدم احترام القوانين الدولية المتعلقة بحرية التعبير، وإدانة اعتداء الشرطة على التظاهرات السلمية، والمبادرة باستخدام الوسائل العنيفة ضد المتظاهرين السلميين، والتوسع في اضطهاد الأقليات والتمييز ضدهم والمعاملة القاسية.
الأمم المتحدة أدانت العنصرية الفرنسية، وطلبت من فرنسا معالجة مشكلات العنصرية والتمييز في صفوف قوات الأمن، وتعليقا على موجة الاحتجاج الأخيرة قالت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان رافينا شمداساني “حان الوقت ليعالج هذا البلد بجدية مشكلات العنصرية والتمييز المتجذرة في صفوف قوات الأمن”.
سبق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن أدانت الانتهاكات التي يتعرض لها الفرنسيون من غير البيض وقالت إن “فرنسا انتهكت الاتفاقية الأوربية لحقوق الانسان التي تحظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة” كما لا تخلو التقارير السنوية لمنظمة العفو الدولية من ملف الجرائم التي تمارسها السلطات الفرنسية ضد مواطنيها خاصة المسلمين والسود، والتي تجعلها في مقدمة الدول في السجل الأسود لانتهاكات حقوق الإنسان.
ووثقت منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمات حقوقية أخرى المعاملة اللإنسانية في عمليات التحقق من الهوية والتوقيف، في باريس ومعظم المدن الفرنسية، التي تحولت إلى سلوك يومي لاحتجاز شباب سود ومسلمين، والاعتداء عليهم بالضرب بدون مبرر، وحذرت من نتائج هذه الممارسات العنصرية على المدى البعيد.
فتنة الحرب على الإسلام:
يحاول الإعلام الفرنسي توظيف ما يجري في الشوارع الفرنسية لتأكيد صواب الحملة ضد الإسلام والمهاجرين، وتحولت أجندة اليمين المتطرف إلى أجندة حكومية، ويتعمدون تفسير الأحداث بطريقة ملتوية، للاستمرار في طريق المواجهة، وليس للتصحيح والبحث عن خطأ التوجه السياسي، الذي حول فرنسا إلى الصورة البائسة التي يشاهدها العالم، والتي تؤكد حالة الانهيار المجتمعي والتفكك العام.
تراود اليمين المتطرف فكرة طرد الأقليات وهي فكرة مستحيلة، فقد مضى عصر الإبادات الجماعية التي شهدتها الحقبة الاستعمارية، فليس كل البيض يوافقون على هذه الأفكار الشيطانية، وقد رأينا في الأحداث الأخيرة فرنسيين صوروا مجموعات من الشباب الفرنسي الأبيض يقومون بالتخريب وسرقة المتاجر ليردوا على من يتهمون المسلمين والسود فقط، فهناك الكثير من الفرنسيين المسيحيين المنصفين الذي يرفضون العنصرية وما يجري من اضطهاد.
والإسلام لا يعتنقه العرب والسود فقط بل هناك فرنسيون بيض اعتنقوا الدين وتركوا المسيحية، ومن الحقائق المستقرة أن الإسلام أسرع الأديان انتشارا وسط الأوربيين، وكثير من الدول الأوربية تتقبل التنوع الديني، ولا تتعامل مع المسلمين بانزعاج وحماقة كما تفعل السلطات الفرنسية، وهذا يعني أن ما يسمى الاستعلاء العرقي وانفراد عرق بالعيش وحده وإبادة الأعراق الأخرى غير ممكن بحكم الواقع.
مالم تغير السلطات نهجها العدواني الذي ثبت فشله ستصطدم السياسة الفرنسية المتعصبة بالصخر، وسيرتد المكر المعادي للإسلام والمسلمين في وجه المتطرفين، فهذه الأجيال من المسلمين بلدهم فرنسا، وليس لهم بلد غيرها، وحتى لو أجبرتهم السلطات على التخلي عن مظاهر عقيدتهم بالقمع والقوة القاهرة وإغلاق مساجدهم ومطاردتهم في الشوارع فإن موجات الغضب ستتحول إلى أعاصير يصعب مواجهتها.
كل تطرف يقابله تطرف مضاد، وإذا كان التطرف من الحكومة فاللوم لا يكون للضحايا الذين يعانون من الاضطهاد والإذلال ويحاولون الصراخ لتوصيل صوتهم، وإنما بتوجيه الانتقاد للعنصريين الفرنسيين الذين يعيشون في الماضي، ولا يحترمون الإنسان وحقه في الاعتقاد، رغم ما وصلت إليه البشرية من تقدم وحضارة.
المصدر : الجزيرة مباشر
Source link