هذا الحديث فيه تحذير شديد لمن لا يبالي بالوقوع في المحرمات متى خلا بها، ولا يقيم وزنا لرقابة الله واطلاعه عليه فهذا قد جعل الله سبحانه أهون الناظرين إليه، فلم يراقب ربه، ولم يخش خالقه، كما راقب الناس وخشيهم.
روى الإمام ابن ماجه في سننه عَنْ ثَوْبَانَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَارَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا» (رواه ابن ماجة في سننه).
يخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن أناس من أمته، لهم أعمال طيبة وحسنات متكاثرة، وصلوات وصدقات وقربات وأعمال بر صالحات وكثيرات.. حتى إنهم ليقومون الليل يصلون لله تعالى مما يدل على اجتهادهم في التعبد.. وأنهم قد جمعوا من عباداتهم وطاعاتهم أجورا كثيرة، وحسنات بلغت مبلغا عظيما حتى صارت كالجبال من كثرتها… ولكن.
أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنهم إذا جاءوا يوم القيامة جعل الله هذه الحسنات هباءً منثورا.. ثم بيَّن عليه الصلاة والسلام السبب في حبوط هذه الأعمال أو ذهاب ثوابها وضياع أجورها فقال: كانوا «إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها».
ومحارم الله: كل ما نهى الله عنه نهي تحريم.
ومعنى انتهاك الحرمات هو: تناولها بما لا يحلّ، والمبالغة في خرق محارم الشّرع وإتيانها. . كسرقة، وغش، وخداع، ورشوة، وشرب مخدرات، أو شرب مسكرات، وفعل الفاحشة، ونظر إلى ما حرم الله من الصور العارية والأفلام الهابطة القذرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»، يدل على أنها عادة لهم، وأنهم كانوا يفعلون ذلك دائما. فيعتدون على حرمات الله في السر، ولا يحفظون حقوق الله، فهؤلاء سيئاتهم تذهب حسناتهم.
يجعلها الله هباء منثورا:
وأما حبوط الأعمال وذهاب ثوابها فقد قال بعض أهل العلم:
– إن الحديث إنما هو في أقوام عندهم نوع من النفاق فهم يصلون ويصومون، ولكن الذي أفسد أعمالهم هو النفاق ومرض القلب، فقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء عن مالك بن دينار أن هذا الحديث في المنافقين قال: هو والله النفاق.. فأخذ المعلى بن زياد بلحيته فقال: صدقت والله أبا يحيى.
أي أنهم قوم منافقون فجَّار ماكرون، فهم أمام الناس من المصلين المحافظين، أما إذا غابوا عن الناس فجروا ومكروا فلم يرعوا لله وقارا، ولم يستحوا من ربهم في الوقوع في المحرمات وانتهاك الأعراض من السب والغيبة والنميمة، والظلم، والتعدي، على حقوق الآخرين، وغيره من الفواحش والمنكرات والمحرمات، فهم كما قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}[النساء:108].
– وقال بعضهم: إنما ورد الحديث في أقوام يراءون الناس بأعمالهم، كما في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، فإن الرياء محبط للعمل الذي أريد به غير وجه الله وليس لكل الأعمال، ولكن لما كان أكثر عملهم رياء، والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، رد عليهم ما راءوا به الخلق وجعله هباء منثورا. فالله سبحانه وتعالى أكرم وأعدل من أن يحبط عمل أحد دون سبب، وأن يضيع أجر من أحسن عملاً، {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}[النساء:40]، وإنما رد أعمالهم لأنها رياء، وفي الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (رواه مسلم)، وفي رواية ابن ماجه: «فأنا منه بريء وهو للذي أشرك».
– قال ابن رجب: وقد يكون له سيئات تحبط بعض أعماله وأعمال جوارحه سوى التوحيد فيدخل النار.
وفي سنن ابن ماجه من رواية ثوبان مرفوعًا: «إنَّ مِنْ أمتي من يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثورًا»
وفيه: «هم قومٌ من جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»
وهذا الحديث فيه تحذير شديد لمن لا يبالي بالوقوع في المحرمات متى خلا بها، ولا يقيم وزنا لرقابة الله واطلاعه عليه فهذا قد جعل الله سبحانه أهون الناظرين إليه، فلم يراقب ربه، ولم يخش خالقه، كما راقب الناس وخشيهم.
والذي يداوم على العصيان في الخلوة ويبارز الله بالمبالغة في إتيان الحرام لم يقدّر الله حقّ قدره بل هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقّه فضيّعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضا الله، وطاعة المخلوق أهمّ من طاعته. فهو يستخفّ بنظر الله إليه، واطّلاعه عليه، وهو في قبضته، وناصيته بيده، ويعظّم نظر المخلوق إليه واطّلاعه عليه بكلّ قلبه وجوارحه يستحيي من النّاس ولا يستحيي من الله.
وفي فعلهم هذا أيضا ما يدل على أن معرفتهم بالله مغلوطة، ولو عرفوا الله حق المعرفة لعلموا أنه مطلع عليهم عالم بما يفعلون يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ولا يغيب عنه شيء مما يعملون، ف{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}، {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}. وفيه دليل على قلة حيائهم منه سبحانه وتعالى.
ثم هو أيضا دلالة على قلة محبة الله في قلوبهم؛ فإن من أعظم علامات المحبة الموافقة للمحبوب فيما يحب ويكره، والطاعة له فيما يأمر وينهى. فكما قالوا: إنما المحبة الطاعة.
تعصى الإله وأنت تظهر حبـه .. هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطــعته .. إن المحب لمن يحب مطيـع
فهذا كله مما يقلل قدر الحسنات، ويجعلها لا تقاوم السيئات عند الموازنة والمحاصصة، فيهلك صاحبها، ولا ينتفع بثواب ما عمل انتفاع المؤمنين المخلصين.
أما ارتكاب المعاصي في الخلوات أحيانا، وضعف النفس أمام شيء من الشهوات والمحرمات، من غير مداومة عليها، ولا إصرار على إتيانها، فلا يكاد يسلم منه أحد، إلاّ من عصمه الله، فمن كان هذا حاله فعليه بالإسراع بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة ومثل هذا فيرجى ألا يكون داخلاً في ذلك الوعيد.
وعموما فالحديث فيه تخويف شديد من الوقوع في المنكرات، والاستهانة بذنوب الخلوات، وعدم الاغترار بالأعمال، والتساهل في اللمم والذنوب الصغيرات، فإنهن يجتمعن على العبد حتى يهلكنه.. نسأل الله أن يعاملنا جميعا بلطفه وفضله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.
Source link