منذ حوالي ساعة
إن كانت الأفكار إيجابية كان واقع صاحبها كذلك، وإن كانت الأفكار انهزامية وسلبية كان واقع صاحبها كذلك بالضبط؛ فليحرص العاقل على اكتساب التفكير الإيجابي في جميع أموره، فهو مصدر قوة وحياة آمنة.
الإنسان في سلوكه هو نتاج لتصوره وتفكيره؛ فسلوك الشخص تابع لتصوره وتفكيره إيجابًا وسلبًا؛ لذا كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل التحديات والصعوبات التي مر بها خلال حياته الشريفة، بعيدة كل البعد عن التشاؤم والنظرة السلبية للأحداث والمواقف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يمتلك تفكيرًا إيجابيًّا، ويربي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته بعد ذلك إلى يوم القيامة على ذلك الجانب المضيء؛ فكان هديُهُ صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الإيجابية في كل أموره، فكان صلى الله عليه وسلم إيجابيًّا في جميع حياته، ولو أن القيامة تلوح في الآفاق بنهاية الحياة الدنيا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (( «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها؛ فليغرسها» ))؛ [ (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني) ].
فأي إيجابية أدل من هذا التوجيه النبوي في التعامل مع الأحداث والمواقف بالمنظور الإيجابي، حتى ولو قامت الساعة؟!
أي: ظن الإنسان المسلم ظنًّا أكيدًا، أن القيامة بأشراطها ومواصفاتها التي جلاها الله في كتابه العزيز، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة بقيامها؛ فإن التوجيه النبوي يكون بهذا الفكر الإيجابي، والنظرة الإيجابية؛ (( «فليغرسها» ))؛ أي يزرعها في التربة، ولا يترك عمل الخير والنفع، وإن لم يَرَه ويشاهده لقيام الساعة، وما يتعلق بها من أحداث مهولة ومرعبة.
إن هذه النظرة الإيجابية، بعيدة المدى، التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على تربية صحابته وأمته عليها، من خلال هذا التوجيه النبوي – لهي – أي التفكير الإيجابي – وسام يتقلده كل مسلم ومسلمة، يعي هذا التوجيه في هذه اللحظات العصيبة، التي يتخلى كل أصحاب المنافع الدنيوية البحتة عنها؛ لأنها بجميع المقاييس والمعايير المنفعية الذاتية الآنية لا يصل صاحبها شيءٌ منها، ومن ثَمَّ فلا داعي لإضاعة الوقت فيها، إن كان هناك بقية وقت، فكيف والساعة تقوم، وتختل كل المقاييس البشرية؟
إن هذه التربية النبوية الإيجابية؛ لتوسيع الأفق والفكر والارتقاء بتفكير المسلم إلى هذه الدرجة الواعية المنتجة الإيجابية – لهي من الأسس الجوهرية في المساهمة الفاعلة في إعادة النهضة الحضارية الإسلامية إلى رونقها وأمجادها؛ فالتخلف الفكري الذي تعيشه الأمة الإسلامية في بعض جوانبها ناتج من ضيق الأفق الفكري، بسبب ضعف أو عدم توفر المعلومات الكافية للقيام بتفكير صحيح ومستمر، أو بسبب قصور العقل وتشوهاته مما يجعله عاجزًا عن القيام بعمليات تفكير إيجابي، وكثيرًا ما يجتمع السببان معًا، والأمم والمجتمعات التي تعاني من تخلف فكري واضح تجد نفسها في كثير من الأحيان عاجزة عن أن تفكر تفكيرًا سويًّا.
ولذا أصبح تعليم التفكير في هذا العصر هدفًا عامًّا من أهداف التربية في كثير من دول العالم المتقدمة، وحق لكل فرد من أفراد المجتمع دون تفرقة بين فئة من فئاته، أو طبقة من طبقاته، ويتفق المسؤولون التربويون في تلك الدول المتقدمة على ضرورة تعليمه، وتعد اليابان من أبرز دول العالم التي تبنَّت سياسات وإستراتيجيات واضحة لتنمية التفكير لدى أبنائها؛ فتعليم التفكير والتعرف على طبيعته وماهيته من القضايا الجوهرية في التربية الحديثة، وزاد الاهتمام بهذا الجانب، بشكل ملحوظ في النصف الثاني من القرن العشرين، سيما عقد الثمانينيات منه؛ وذلك بسبب تغير الظروف والمعطيات، وبسبب ما تم اكتشافه على صعيد الطبيعة البشرية، مما يستدعي الانفتاح على الأفكار والمعلومات والملاحظات التربوية الجديدة، والاستفادة منها على أفضل وجه ممكن.
لذلك فإن مسألة الاهتمام والعناية بجانب التفكير في العموم، والتفكير الإيجابي في الخصوص، لها أثر بالغ في تقدم الشعوب ورُقيِّ الأمم، وصناعة المواطنين الصالحين، القادرين على التعامل مع المشكلات التي يعاني منها المجتمع، بكل إيجابية، ورؤية وحكمة، وفاعلية مجدية لأنفسهم وأوطانهم ومجتمعاتهم، ويتحقق ذلك عندما يكون ذلك التفكير مرتكزًا على الموضوعية، وعلى عدد كافٍ من المقومات والقوانين النيرة المعترف بها.
إن التفكير الإيجابي ضرورة في كل وقت وزمان، وتتأكد ضرورته في عالم اليوم، الذي أصبح يمثل قرية واحدة صغيرة، بل بيتًا واحدًا، بل ربما أضيق من ذلك؛ فلا يمكن التحكم بحال فيما يدخل وفيما يخرج منها، من خلال وصول وسائل الإعلام والتواصل إلى أضيق مكان محتمل؛ فهي تعج بكل جديد، وتناقش كل شيء يهم حياة الناس، بغض النظر عما يحمل ذلك الفكر المطروح من خلالها، من إيجابيات أو سلبيات على الصغير والكبير معًا.
وهنا يتجلى دور التفكير الإيجابي في بناء شخصية الإنسان في العموم، والمسلم في الخصوص؛ فمن يمتلك تفكيرًا إيجابيًا، فهو يستطيع أن يتعايش مع ذلك الزخم، بعقل وفكر واعٍ؛ فيأخذ كل ما هو مفيد وإيجابي، فيوظفه لصالح نفسه ومجتمعه وأمته، ويطور ذاته، ويبتعد عن كل ما هو سلبي ضار على الفرد والمجتمع في نفس الوقت.
لذا حرصت على طرح هذا المقال بهذا العنوان؛ فتبني الأفكار الإيجابية والحرص عليها، من العوامل الجوهرية المؤدية إلى تحقيق النجاح في الحياة؛
يقول جيوتمر: “في بداية أية مهمة سيكون توجهك هو العامل المؤثر، أكثر من أي عامل آخر، على نجاحك فيها”.
ويقول أمرسون: “إذا أخبرتني بم يفكر الرجل؟ أقول لك: أي رجل هو؟”
ويقول ماركوس أدريليوس: “حياتنا من صنع أفكارنا”.
فإن كانت تلك الأفكار إيجابية، كان واقع صاحبها كذلك، وإن كانت تلك الأفكار انهزامية وسلبية، كان واقع صاحبها كذلك بالضبط؛ فليحرص العاقل على اكتساب التفكير الإيجابي في جميع أموره، فهو مصدر قوة وحياة آمنة
ومن أعظم تلك المصادر للتفكير الإيجابي التفكيرُ الإيجابي من وحي الكتاب والسنة من منظور التربية الإسلامية؛ لأنه سيساعدك على التفكير الآمن في حل معضلات الحياة وتحدياتها التي هي جزء من طبيعة الحياة وتكوينها، فعند ذلك يزداد المسلم الإيجابي إقبالًا وتفاؤلًا، وثقة وقوة، ومهارة وتعاملًا مع تحديات الحياة وصعوباتها؛
لأنه سيتحرر من معاناة وآلام سجن التفكير السلبي وآثاره الجسيمة بهذا الفكر الإيجابي الذي يمتلكه، وبهذه الروح الإيجابية، فالإيجابي يستمتع أكثر، وينظر إلى الجانب المضيء بدلًا من أن يملئ رأسه بالأفكار السلبية، ويختار أن يكون سعيدًا بدلًا من أن يكون حزينًا؛ فكن إيجابيًّا في حياتك، تكن فاعلًا في العطاء.
وقد أشرت فيما سبق إلى دور التصور والتفكير لدى الشخص في تبنِّي السلوك التابع له؛ فالسلوك الصادر من الإنسان أيًّا كان وضعه، وأيًّا كانت تلك السلوكات إيجابية أم سلبية؛ فالأصل لا تصدر إلا عن تصورات فكرية مسبقة في العقل الإنساني، تتحول منه إلى بقية الجوارح؛ كسلوكات عملية مشاهَدة للعيان
فالتربية الإسلامية من خلال مصدريها الأساسيين؛ الكتاب والسنة، تهتم بالبناء الفكري الإيجابي في كل نصوصها؛ وذلك لأن العقل عليه مدار التكليف والأحكام الشرعية ثبوتًا وعدمًا؛ لذا كان الخطاب القرآني موجهًا إليه مباشرة؛ فقال تعالى: ﴿ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} ﴾ [محمد: 24]، ﴿ {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} ﴾ [الأنعام: 50]، ﴿ {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} ﴾ [يس: 68]، ﴿ {أَفَلَا يَنْظُرُونَ} ﴾ [الغاشية: 17]، وغير ذلك؛ فالعقل هو الآلة المادية للتفكير، وفيه تتولد قدرة الإنسان على التصور وعلى التعبير، وكذلك على فهم المعاني والاستجابة للتعليمات؛ ولذا رفع الشارع القلم عن ثلاثة؛ كما ورد في الحديث، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (( «رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتَّى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتَّى يَعقِلَ» ))؛ [ (رواه الترمذي وغيره، وصححه الألباني) ].
ووجه الدَّلالة من إيراد هذا الحديث أنَّ المجنونَ لا عقلَ له، يفهم ويدرك به الخطاب ولا نيَّة، ولا خطابَ للشَّارِعِ بدونهما، وكذلك حال الصبي لم يكمل بعد إدراكه وفهمه للمعاني والخطاب، وكذلك النائم حتى يصحو ويستيقظ من نومه.
فالإنسان – كما قال باسكال – ليس سوى آلة مفكرة، والفكر هو الذي يشكل عظمة الإنسان، ولأن الفكر هو الذي يشكل عظمة الإنسان، وهذه العظمة الإنسانية ترتبط بمقدار ما يحمل ذلك الفكر من إيجابية وفاعلية في الحياة، فإن من التقسيمات المشهورة لدى علماء الاختصاص، أن التفكير من حيث الفاعلية ينقسم إلى قسمين:
• التفكير الفاعل: وهو الذي يتصف بأنه يتبع أساليب ومنهجية سليمة، ويستخدم أفضل المعلومات الدقيقة والكافية، وهو بحاجة إلى التدريب لفهم الأساليب، وتطوير مهارات استخدامها، وتوافر عدد من القابليات التي يمكن تطويرها من خلال التدريب.
• التفكير غير الفاعل: وهو تفكير غير منهجي مبني على افتراضات باطلة أو متناقضة؛ للتوصل إلى استنتاجات غير مبررة، وإعطاء أحكام متسرعة، ويشمل التضليل واللجوء إلى فرض الرأي على الآخرين، والابتعاد عن صلب الموضوع، ويحكم على هذه الأشياء بمنظور أبيض أو أسود، ولا وسط بينهما.
وأرى أن من خلال التقسيم السابق أن التفكير الفاعل هو الأقرب إلى التفكير الإيجابي، الذي يعلو بصاحبه في المكان والزمان، ويسمو به إلى خير الأقوال والفعال، وهو تفكير سليم، يمكِّن صاحبه من التكيف مع الظروف المحيطة به، والتعامل مع المشكلات والصعوبات والتحديات التي تواجهه، وذلك باستدعاء وتوظيف ما يملكه من معلومات ومهارات وخبرات، وكلما كانت هذه الأدوات صحيحة ومتطورة، كان مفعولها أقوى وأبقى، وعدَّد بعض الباحثين مجموعة من الخصائص الشخصية والفكرية التي يمتاز بها أصحاب هذا التفكير الإيجابي، ومن الجميل ونحن نتطرق لهذا الموضوع الشائق، أن نتعرف على بعضها؛ لتكون شخصيتنا إيجابية، وتفكيرنا إيجابي؛ ومن ثَمَّ نكون مصادر إسعاد لأنفسنا ومجتمعاتنا، ولعل التعرف على تلك الخصائص الشخصية والفكرية لأصحاب التفكير الإيجابي، وصفاتهم، والعلاقة بين التفكير الإيجابي والإيجابية، نتطرق لها إن شاء الله في تكملة المقال في لقاء آخر؛ فكن جميلًا، ترَ الوجود جميلًا.
_____________________________________________________
الكاتب: د. عوض بن حمد الحسني
Source link