من السنن الإلهية التي يقوم عليها قانون الكون ونظام الشرع ربط الأسباب بمسبباتها، وبناء النتائج على مقدماتها، وهذه سنة عامة، وقانون مطرد أجراه الله بحكمته في قدره وشرعه، فالكون لا يقوم على المصادفات العمياء، والاتفاق المجرد، بل على قانون الأسباب المنسجم مع الشرع والعقل والفطرة
من السنن الإلهية التي يقوم عليها قانون الكون ونظام الشرع ربط الأسباب بمسبباتها، وبناء النتائج على مقدماتها، وهذه سنة عامة، وقانون مطرد أجراه الله بحكمته في قدره وشرعه، فالكون لا يقوم على المصادفات العمياء، والاتفاق المجرد، بل على قانون الأسباب المنسجم مع الشرع والعقل والفطرة، وإهمال قانون السببية من أهم أسباب التخلف في حياة المسلمين عبر قرون متطاولة، ما أدى إلى تأخر النهوض الحضاري للمسلمين، وذلك أنهم يطلبون حصول نتائج من غير مقدمات، ومسببات من غير أسباب.
وشواهد هذه السنة الإلهية في الشرع كثيرة، وفي السنة على وجه الخصوص تأكيد على ذلك، ففي سنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم».
فهذا النص النبوي يؤكد على ارتباط كثير من المصائب والكوارث العامة بالأسباب الكسبية التي يفعلها البشر، وهذا النص النبوي وأمثاله يربي في النفوس خطورة التسبب في نزول هذه البلايا العامة، وضرورة المعالجة بالكف عن ممارسة تلك الأفعال السيئة التي تورث نتائج وخيمة.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: “وسبب هذا الذل والله أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين عاملهم الله بنقيضه، وهو إنزال الذلة فصاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان”.
وعلى سبيل المثال فإن المسلم يقر بأن الكوارث والظواهر الكونية تقع عند تعلق الإرادة الإلهية بوقوعها، ولكن ذلك لا يعني خرق سنة الله في الأسباب والمسببات، فلا نتوقف عن معرفة الأسباب التي تفيدنا في التحكم بالظواهر الكونية المختلفة، فهذا يجعلنا أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا، ودرء أخطارها عنا بإذن الله.
ومن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنها تعزز أهمية التعامل مع الواقع في إطار السنن الإلهية، ولا سيما سنة الأسباب والمسببات، فلم يهمل النبي صلى الله عليه وسلم الأسباب في أي موقف من حياته، بل كان يتعامل بواقعية وموضوعية، ويعد لكل أمر عدته، فلم يعول على كونه نبيا مؤيدا بالنصر الإلهي فحسب، وهذا ظاهر في سيرته صلى الله عليه وسلم.
وفي الأمر بكف الأيدي في المرحلة المكية عن مواجهة الصلف الوثني الذي تمثل في طغيان قريش في حق المؤمنين المعتنقين للإسلام، تشريعٌ سُنَنِيٌ للأخذ بأسباب القوة، والإعداد والتأهيل، لتكوين القاعدة الصلبة التي تتمكن بعد ذلك من فرض نفسها وخياراتها، فالرسالة لا تقوم على الجانب الروحي والإيماني فحسب، بل هي قائمة على منطق المعقولية للأسباب والمسببات، والمقدمات والنتائج.
وهكذا الشأن في الإذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث يظهر في ذلك الإجراء مراعاة السنن، إذ لم يكن من الطبيعي أن تتعرض النواة الأولى للهلاك دون البحث عن أفق مرحلي للحفاظ عليها، وانتظار دورة الزمان لصالح الجماعة المسلمة.
ولو حللنا هجرته صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال في ضوء السنن الإلهية، فسنجد أنه لم يفترض أن تحفه الخوارق والمعجزات، بل أخذ بالأسباب الممكنة، سواء منها المادية والمعنوية، فأعد راحلته وزاده، واستخلف عليا رضي الله عنه على فراشه، وتخفى في الغار، واصطفى لنفسه صاحبا لتلك الرحلة، ودليلا للطريق، وعينا ينقل إليه أخبار الطلب، وحدد الوجهة الآمنة، وفي هذا من الدروس البالغة في مراعاة الأسباب، واستغلال الفرص، ومراعاة السنن، وعدم التعويل على خوارق العادات، وتعديل نواميس الكون.
Source link