منذ حوالي ساعة
خرج علينا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بخريطة للكيان الصهيوني تضم فلسطين والأردن وأجزاء من سوريا ولبنان والسعودية
بينما كانت مدينة شرم الشيخ تستضيف اجتماعا يضم الإسرائيليين والفلسطينيين بمشاركة مصرية أردنية أمريكية لبحث التهدئة في الأراضي المحتلة، خرج علينا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بخريطة للكيان الصهيوني تضم فلسطين والأردن وأجزاء من سوريا ولبنان والسعودية، وكأنه يسخر من هذه اللقاءات التي لا تهدف إلا إلى الضغط على الجانب الفلسطيني.
الخريطة ظهرت على المنصة أثناء حديث سموتريتش في مؤتمر في باريس لتكريم جاك كوبفر الناشط الصهيوني الراديكالي والرئيس السابق لحزب الليكود في فرنسا، وكانت تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بالغة الوقاحة والتطرف، إذ زعم أنه لا يوجد شعب فلسطيني، وأن القضية الفلسطينية تم اختراعها في آخر مئة عام!
ادعى سموتريتش أن فلسطين ملك لليهود، وأن حدود إسرائيل هي كل الأرض التي عاشت عليها القبائل اليهودية قديما، وحاول نفي حق الفلسطينيين في أرضهم، ووسط حشد من الصهاينة المتطرفين تساءل سموتريتش: من كان أول ملك فلسطيني؟ ما لغة الفلسطينيين؟ هل كانت هناك عملة فلسطينية من قبل؟ هل هناك تاريخ أو ثقافة فلسطينية؟!
الحكومة الأردنية استنكرت نشر الخريطة، وأدانت التصريحات الكاذبة، وأكدت في بيان أصدرته وزارة الخارجية أنها “ستتخذ جميع الإجراءات السياسية والقانونية الضرورية للتصدي لمثل هذه التصرفات والتصريحات الحاقدة المتطرفة، وما تمثله من تصعيد خطير يهدد الأمن والاستقرار ويدفع باتجاه التصعيد”.
الأطماع في الأردن
تثير الخريطة وتصريحات الوزير الإسرائيلي التساؤلات عن الهدف منها في الوقت الحالي، فهل هو الابتزاز والتهديد للأردن لتمرير مطالب جديدة؟ أم التمهيد الإعلامي والسياسي لخطة توسعية يتم الإعداد لها؟ أم أن قادة التطرف الصهيوني يشعرون بالعلو والغرور مع حالة الهرولة من بعض الدول العربية، ويظنون أن المقاومة العربية انهارت وأن الطريق مفتوح لتنفيذ حلمهم بإقامة إسرائيل الكبرى؟!
الأردن مستهدف بوصفه جزءا من تصور إسرائيل الكبرى حسب الوعد المزعوم في التوراة “من الفرات إلى نهر مصر”، والمقصود بنهر مصر هو نهر العريش، وهو نهر مندثر، مكانه الآن وادي العريش، وهو مخر يصرف مياه السيول إلى البحر كل عام، ولأسباب استراتيجية لا يستطيع الصهاينة الإعلان بصراحة عن هذه الحدود كاملة حتى لا يثيروا العداء والغضب في الدول المحيطة.
لقد ظلت الرغبة في السيطرة على الضفة الشرقية لنهر الأردن حيث يعيش معظم الأردنيين من أولويات العقل التوسعي الصهيوني، وكان مناحم بيجين في كل مناسبة يجيء فيها ذكر شرق الأردن يقول: “الأرض التي يحتلها العدو”، وكثيرا ما طالبت مجلة فلسطين التابعة للصهيونية العالمية في بداية القرن الماضي بضم شرق الأردن للدولة الصهيونية.
وعندما أقدمت بريطانيا على إنشاء إمارة شرق الأردن احتجت الحركة الصهيونية العالمية، وظلوا يطالبون بالضفة الشرقية للنهر حتى الخط الحديدي الحجازي الذي شيده السلطان عبد الحميد، أي معظم المدن الأردنية، وطالبوا بضم ميناء العقبة، لكن بريطانيا رأت أن هذا المطلب يصعب تنفيذه لأسباب ديموغرافية وأمنية، ويتعارض مع التفاهمات مع أصدقائها العرب، وترتيبات التقسيم المتفق عليه مع فرنسا.
أيا كانت أهداف سموتريتش، فإن الخريطة ليست جديدة وإنما هي شعار المنظمة الصهيونية “إتسل” أو “الإرجون” وهي الحركة الإرهابية التي ارتكبت المذابح ضد الفلسطينيين أثناء الانتداب البريطاني (بين 1931 و1948) الذي انتهي بتسليم فلسطين لليهود، لكن الجديد هو التصريحات التي تهدف إلى محو اسم فلسطين والشعب الفلسطيني من الذاكرة، والزعم بأن القضية الفلسطينية مجرد أوهام!
الأرض للفلسطينيين
الرد على الوزير الصهيوني لا يحتاج إلى أدلة، فكتب التاريخ تشهد أن الوجود اليهودي في فلسطين كان وجودا طارئا، وأنهم تسللوا على فترات طويلة إلى أرض الكنعانيين الذين ينتسبون إلى كنعان بن نوح، في فترة ضعف الإمبراطوريات الكبرى، وأنهم كانوا يعيشون في مستوطنات معزولة في الجبال والمرتفعات، ولم تقم لهم دولة موحدة إلا في عهد داود وسليمان، التي لم يزد عمرها عن 80 عاما بنصوص التوراة، ثم انقسمت وقتل بعضهم بعضا.
ثمانون عاما ليست بالعمر الطويل في تاريخ الأمم، وبعد موت سليمان انقسمت المملكة إلى مملكة شمالية باسم “إسرائيل” تتكون من 10 قبائل، ومملكة جنوبية باسم يهودا تتكون من قبيلتين، وسفكوا دماء بعضهم بعضا، وتشير نصوص التوراة إلى أنهم طُردوا من فلسطين بسبب كفرهم برب هارون وموسى وعبادة الأوثان، وكانت البداية بالشماليين الذين عبدوا البعل الذي كان يعبده شعب كنعان، فكان العقاب الرباني، وسقطت هذه الدويلة بالغزو الآشوري عام 722 ق. م، وتم تهجير اليهود إلى آشور، واختفوا من يومها ولم يظهر لهم أثر حتى الآن.
وبقيت مملكة يهودا حتى جاء نبوخذ نصر عام 586 ق. م، وقام بتهجير اليهود إلى بابل في ما عُرف بالسبي البابلي، وبقوا هناك نحو 50 عاما حتى انتصر الفرس على بابل، وأعاد الملك قورش بعضهم إلى فلسطين كجماعة وظيفية في خدمة الإمبراطورية الفارسية، وقاموا بهذا الدور في ما بعد مع الآخرين، حيث انتقلوا لخدمة الإغريق بعد قدوم الإسكندر الأكبر، ثم خدموا الرومان حتى أخرجوهم نهائيا عام 135 م بسبب مؤامراتهم ودسائسهم وتمردهم، وحولوا القدس إلى معسكر روماني، وبعد تنصر الإمبراطور قسطنطين في 313 م تحولت إلى مدينة مسيحية حتى قدوم الإسلام.
قصة شمشون وقتله في غزة
يبدو أن الوزير الصهيوني لا يقرأ العهد القديم وأسفار التوراة المكتوبة بلسان قومه، وفيها الرد على كلامه، فالفلسطينيون كانوا يعيشون في أرضهم قبل تسلل اليهود إلى أرض كنعان، وظل الساحل فلسطينيا (غزة، عسقلان، أشدود، جت وعقرون) -حسب التوراة- حتى في ظل دولة داود وسليمان، تحت سيطرة الفلسطينيين، وكان سليمان وهو النبي يتعامل بعدالة وتسامح مع جيرانه، فكان صديقا لملك صور، ويرسل إليه القمح والطعام مقابل الأخشاب والذهب والنحاس.
تمتلئ أسفار يشوع والقضاة وصموئيل بتفاصيل المعارك مع الكنعانيين والأموريين والآراميين والفلسطينيين وغيرهم طوال الوقت، وكثيرا من الفترات خضع اليهود لهيمنة الشعوب الأخرى بالمنطقة، ومن القصص التي تشير إلى ما كان يعانيه اليهود من سيطرة الفلسطينيين عليهم فترات طويلة، قصة الأسطورة اليهودي شمشون صاحب القوة الخارقة، الذي كان يقتل ألف نفس ولا يقدر عليه أحد، وكانت نهايته على يد الفلسطينيين.
ملخص القصة التي جاءت في سفر القضاة أنه في الفترة التي ظهر فيها شمشون كان الفلسطينيون “متسلطين على بني إسرائيل”، وكان شمشون قاضيا في تلك الفترة التي تُعرف بحكم القضاة، إذ لم تكن لهم دولة مركزية موحدة، ولا وحدة قومية، وإنما قبائل موزعة جغرافيا في مساحات غير مترابطة، ولكل قبيلة قاض يحكم لها، وهو الزعيم الذي يسمعون له.
وتقول الأسطورة إن شمشون أحب فتاة فلسطينية اسمها دليلة، وأن قادة الفلسطينيين قالوا لها ” تحايلي عليه واعرفي سر قوته العظيمة” وبعد إلحاح أخبرها بأن السر في شعر رأسه، فأخبرتهم فدخلوا عليه وهو نائم فقصوا شعره ففارقته قوته “فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه ونزلوا به إلى غزة وقيدوه بسلاسل وجعلوه يطحن في السجن”.
وكانت نهاية شمشون في حفل أقامة الفلسطينيون في معبدهم، وقالوا: هاتوا شمشون يسلينا، فأحضروه من السجن، وكان شعره قد نبت مرة أخرى فاستعاد قوته، فلعب أمامهم ثم أوقفوه بين الأعمدة، فطلب شمشون من الشاب الذي كان يقوده أن يوقفه بجوار الأعمدة التي يرتكز عليها المعبد، فدفع العمودين بكل قوته فانهار المعبد على من فيه، ومات شمشون.
وهناك عشرات الأمثلة في “العهد القديم” على تسلط الشعوب صاحبة الأرض في الأردن وفلسطين على اليهود، وأن فترة وجودهم لم تكن مستقرة، حتى جاءت الإمبراطوريات في زمانهم وكسرت شوكتهم وطردتهم.
***
قد يظن الساسة الإسرائيليون أن حالة الضعف في العالم العربي تتيح لهم المجاهرة بما كانوا يخفونه، وقد يغريهم لمواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني أن الساحة الدولية مشغولة بحروب زعامة العالم، لكن يفوتهم أن التطرف سيجلب عليهم المزيد من ردود الأفعال والتصعيد، والرد على هذا الغرور يكون من الداخل بأساليب لم يكونوا يتوقعونها، على النحو الذي يجري في الضفة منذ صعود المتطرفَين إيتمار بن غفير عدو المسجد الأقصى وسموتريتش صاحب الخريطة.
المصدر : الجزيرة مباشر
-
صحفي وكاتب مصري، شغل موقع مساعد رئيس تحرير جريدة الشعب، ورئيس تحرير الشعب الالكترونية
Source link