من صامَ صيامَ مُودِّع، مُحاسبًا نفسه، فلا شك أنه سيأتي به على أكمل وجه، وأحسن صورة؛ لا لشيء إلا لأنه صامَ صيامَ من أيقن أنه لا يرجع إليه أبدًا…
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة، وأتم التسليم على رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإني لما رأيت كثيرًا منا قد خرجوا بالصيام عن المقصود به، وجنحوا عمَّا لا يكون إلا به، وتركوا ما لا يصلحه إلا هو، وعزفوا عن كثير مما ينبغي له، وأخذوا في زخارف باطلة، وتمسَّكوا بخيوط واهية كثير منها لا يُسمن ولا يُغني من جوع؛ بل زادوا الأمر ضغثًا على إبالة، فتراهم يزيدون فيه ما ليس منه، وينقصون منه ما هو لازم له، لا هَمَّ لهم إلا رونقه، ولا يعتنون إلا بزبرقته، فخرجوا به عن قصده، وجمعوا إلى ذلك ما نهوا عنه من الذنب، فعظم الجرم، وعلا الران القلب، وقديمًا: ذمَّ أعرابي قومًا؛ فقال: “يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفواحش“.
ومن المعلوم يقينًا، والمتقرَّر حقًّا عند ذوي الفطر الصحيحة، والعقول السليمة أن الصيام هو مدرسة لنيل التقوى وبلوغها، وتحصيل تزكية القلوب ونيلها، وأنه طبيب لأمراض الذنوب، ومصلح لأمزجة القلوب، متى رأى يائسا منَّاه، أو آمنًا خوَّفه، فهو يُقاوم الأمراض مع اختلاف ضروبها وأنواعها، ويقضي عليها مع تبايُن أشكالها وأجناسها.
أقول: لما كان الأمر كذلك، كتبت هذه الموعظة في لياليه المباركة، مُذكِّرًا بها نفسي وإيَّاهم بما من أجله شرع، وحثًّا على ما له وضع، وتذكيرًا للعقول الواهمة، والأفهام الحائرة، وترقيقًا للقلوب المعرضة، والنفوس المتوهِّمة، وتقريرًا بأن التوبة والندم سبب لكشف هذا الغم، ودفع ذلكم البلاء.
ولينظر كل منا إلى حاله، وليتفقَّد أعماله، فكل حسيب نفسه، ويومًا ما سيكون وحيد رمسه، والأمر حقًّا كما قيل:
المرء رهن مصائب لا تنتهي ** حتَّى يُوارى جسمه في رمسه
فمؤخر يلقى الرَّدَى في أهله ** ومقدم يلقى الرَّدَى في نفسه
وعلينا الاستعداد للسؤال، والتهيُّؤ للجدال قبل أن يقع ما أخبر عنه الكبير المتعال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111].
فنعوذ بالله عز وجل من تبلُّد الأذهان، وضعف الإيمان، ونسأله التوفيق قبل حلول الندم، وزوال النعم، ونزول النقم؛ حيث لا ينفع الندم.
والسعيد حقًّا من وعظ بحال غيره، فتاب واستغفر، والشقيُّ من دعاه إبليس فأصرَّ واستكبر، والله عز وجل وحده هو الهادي والموفِّق.
واسميتها: “صُمْ صيامَ مُودِّع” (موعظة).
والمقصود بقولي: “صم صيام مودع” والمراد منه: الندب إلى الزهد في الدنيا، والتقلُّل منها، ومن الانهماك فيها والاستمتاع بلذَّاتها في أثناء هذه العبادة العظيمة والشعيرة الجليلة، وأن يعلم أحدُنا أنه لن يعيش أبدًا؛ فليعمل – والأمر كذلك- عمل من أيقن برحيله، وليكن عمله طلبًا لما يكون عونًا له بين يدي الله عز وجل.
فهي عند التأمُّل والنظر والاعتبار والتفكُّر حثٌّ لنا على الترك والتقليل بطريقة أنيقة وإشارة لطيفة، والتنبيه بصورة جميلة وومضات سريعة.
ومعناه – بصورة أخرى-: تقديم أمر الآخرة وأعمالها حذار الموت بالفوت على عمل الدنيا، وتأخير أمر الدنيا كراهية الاشتغال بها عن عمل الآخرة.
ليكون صيام: مودع لنفسه، مودع لهواه، مودع لعمره، سائر بذلك كله إلى مولاه، فيكون كما قال جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، وقال عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223].
وهو في كل ذلك يستشعر شكر الله عز وجل على توفيقه لهذه الطاعة، ويستحضر أنه مُودِّع بصيامه هذا، وأنه ربما لن يعيش لمثله.
لسان حاله:
ألا تبصر الآجال كيف تخرمـت ** وكل امرئ للهلك والموت صائــــر
وأنت بكأس القوم لا بد شارب ** فهل أنت فيما يصلح النفس ناظر
وكل من ظن أنه لا يبقى إلى صيام آخر، جد واجتهد. وقديمًا قال بعضهم: الأيام ثلاثة:
• فأمس صديق مؤدَّب، أبقى لك عظة، وترك فيك عبرة.
• واليوم صديق مُودِّع، أتاك ولم تأته، كان عنك طويل الغيبة، وهو عنك سريع الظعن، فخذ لنفسك فيه.
• وغدًا لا تدري ما يحدث الله فيه، أمن أهله أنت أم لا؟
وقبل أن أشرع في بيان شيء من سمات الصائم المودع وعلاماته، وأشير إلى شيء من أقواله وأعماله – على عجالة – أقول:
لقد رتَّبَ الله عز وجل على الصيام من الثواب العظيم، والأجر الجسيم، والنفع العميم، كما رغب في فضله، وأثنى على أهله، ومن استشعر هذا، وصامَ صيامَ مُودِّع، مُحاسبًا نفسه، فلا شك أنه سيأتي به على أكمل وجه، وأحسن صورة؛ لا لشيء إلا لأنه صامَ صيامَ من أيقن أنه لا يرجع إليه أبدًا، وعلم أنه سائر إلى الله عز وجل بقلبه، فودَّع هواه ودُنياه، وكل ما سواه، استسلامًا لأمره وإنجازًا لفرضه، ورضا بقضائه، وإذعانًا لعزته، وخضوعًا لقدرته، وخشوعًا لغلبته، وإيثارًا لما حثَّ عليه، وانتهاء عمَّا نهى عنه، وإيمانًا وإيقانًا بأن الموت حق.
ذلك أنه رأى يسيرَ ما بقي من أجله؛ فزهد في طول ما يرجوه من أمله، وخشي أن يلقاه ندمه، إذ قد زلَّتْ به قَدَمُه، وأسلمه أهلُه وولده، وانصرف عنه القريب، وودَّعه الحبيب، ثم صار يُدعى فلا يجيب، فلا هو في عمله بزائد، ولا إلى أهله بعائد؛ فعمل لنفسه قبل يوم القيامة، وقبل الحسرة والندامة.
وقد قال عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله: لو قيل لحماد بن سلمة رحمه الله: “إنك تموت غدًا، ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا”. قال الحافظ الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (٧/ ١٠٧) معلِّقًا عليه: “قلت: كانت أوقاته معمورة بالتعبُّد والأوْراد“.
فحريٌّ بنا بأولي العقول والألباب، أن نُسارع للقيام به حق القيام؛ فإن أحدنا لا يدري أيرى غيره أم لا؟
وأن نحث الخُطى إلى بابه الريَّان قبل أن يُوصَد عنا، ويُغلَق دوننا، ولا حيلة بعد إليه، ولا دليل عليه.
وسأشرع الآن في بيان ما أردت فأقول:
الصائم المودع:
يأتي به بنية خالصة وطوية صافية، ممتثلًا لأمره عز وجل مُتَّكِلًا على وعده، من غير كراهية وملالة لما يُصيبه من أذى الجوع والعطش، وكلفة الكف عن قضاء الوطر؛ بل يحتسب النصب والتعب في طول أيَّامه، ولا يتمنى سرعة انصرامه، ويستلذُّ مضاضته.
الصائم المودع:
نيته لله عز وجل مجردة، وتوبته دومًا مُتجدِّدة مجددة، وندامته على ما اقترفه مؤكدة.
الصائم المودع:
مدرك أنه ليس في العبادات أفضل من الصيام؛ لأنه باب العبادة وكفَّارة للذنب.
الصائم المودع:
كما أنه صائم عن الطعام، فهو أيضًا دائب على القيام، لا يُؤذي الأنام، حافظ للسانه، مدرك لفعله، مبادر بالتوبة من ذنبه، خائف من عذاب ربِّه، مغتنم لشهر رمضان؛ لأنه يدرك ما خصَّ به من الرحمة والغفران.
الصائم المودع:
على صلاته دائم، وللتواضُع والخشوع ملازم، سيماه الذلة لمولاه، والخضوع لربِّه جلَّ في عُلاه، طاهر الطويَّة، سليم العلانية، يجتنب الأعمال الدنيَّة، والأفعال الردية.
الصائم المودع:
مدرك أن الصوم أنواع:
١- صوم الروح: وهو قصر الأمل.
٢- صوم العقل: وهو مخالفة الهوى.
٣- وصوم الجوارح: وهو الإمساك عن المفطرات معنويِّها وحسيِّها.
فهو حريص عليها جميعها، ملتزم بكلها.
الصائم المودع:
مُتاجر مع مولاه ليربح، ويعامله ليفلح، معتذر إليه؛ ليقبل عذره، كثير الاستغفار؛ ليغفر ذنبه، مداوم على الرغبة إليه؛ ليكشف كربه، سائلًا له عز وجل من فضله؛ ليوسع رزقه، مقبل عليه، تاب إليه؛ ليعظم حظه.
الصائم المودع:
يدرك أن الجوع ملاك السلامة في باب الأديان والأبدان عند الأطباء والحكماء، وأنه: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه)).
تجوع فإن الجوع يورث أهله ** عواقب خير عمها الدهر دائـــم
ولا تك ذا بطن رغيب وشهوة ** فتصبح في الدنيا وقلبك هائم
الصائم المودع:
يرجو من صيامه هذا اغتنام الفضيلة والنعمة الجزيلة، والدرجة الجليلة والراحة الطويلة، والراحة الوافرة، والمنزلة السائرة، والحالة الرضية، والجنة السرية، والنعمة الهنية، والعيشة الرضية، إن شاء الله عز وجل.
فالصائم المودع:
لا يمضي صيامه بالغيبة والنميمة وقبح الكلام، ولا يكثر في صيامه من الرفث والفسوق والجدال والعصيان، وليس هو في نهاره غافل ساه، ولا في ليله سادر لاه.
الصائم المودع:
يكفُّ أذاه عن جميع الناس، ويحذر من التخليط والالتباس، وهو إلى ذلك معرض عن فضول ولغو الكلام، حتى لا يبطل فضل صيامه، عند الملك العلَّام.
الصائم المودع:
يغض بصره عن النظر إلى المحظورات، ويحبس لسانه عن الخوض في أعراض المسلمين والمسلمات، ويكفُّ جوارحه عما يفسد صومه بله دينه، وهو إلى ذلك يكثر فيه من الصَّدَقات، ساكب للعبرات، مُتضرِّع بإقالة العثرات، مداوم على الحسنات.
الصائم المودع:
لا يؤذي في رمضان، ولا يظلم، ولا يحقد، ولا يحسد، حافظ لجوارحه من الإجرام واكتساب الآثام؛ لأنه يعلم على ما يقدم، وأنه سيندم عليه حيث لا ينفعه الندم.
الصائم المودع:
دائم البكاء والحسرة، كثير الدموع والعبرة، متضرع لمولاه بالإقالة، وأن يجعل له من الذنوب والعيوب سترًا ووقاية.
الصائم المودع:
مجتنب للأوزار والعثرة، باذل الرحمة لذوي الحاجة، مخلص في كل ذلك للملك العلَّام، ملتزم بشريعة الإسلام، أسوته في كل هذا نبينا عليه الصلاة والسلام.
الصائم المودع:
يقطع نهاره بالدعاء والذكر، ويحيي ليله بطول السجود والركوع، حريص على الخير؛ ليفوز بسرور دائم، ونعيم غير منقطع.
الصائم المودع:
يعلم أنه سينال بصيامه – على هذا الوجه – من الحظوظ ما لا تعلو إليه خواطره، ولا تناله أمنيته، ولا ترتقي إليه هِمَّتُه، ولا يبلغه رجاؤه، ولا يدركه طلبه، ولا يتجاوز إليه أملُه.
الصائم المودع:
مدرك أن شهر الصيام هذا، ليس كسائر الشهور، وأن الله عز وجل قال – كما في الحديث القدسي-: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به»، فلسان حاله فيه ما قاله الأول:
ألا خيرًا لمقترح النــــــــــــــواح ** أطير إليه منشور الجنــــــاح
فأسأله وألطفه عســــــــــــــــــاه ** سيسلي ما بقلبي من جـراح
ويجلو ما دجا من ليل جهلـــــي ** بنور هدى كمنسلخ الصبـــاح
سأصرف همتي بالكل عمـــــــــا ** نهاني الله من أمر المــــــزاح
إلى شهر الخضوع مع الخشـوع ** إلى شهر العفاف مع الصـلاح
يجازى الصائمون إذا استقامـوا ** بدار الخلد والحور المـــــلاح
وبالغفران من رب عظيــــــــــم ** وبالملك الكبير بلا بـــــــــراح
فيا أحبابنا اجتهدوا وجـــــدوا ** لهذا الشهر من قبل الـــــرواح
عسى الرحمن أن يمحو ذنوبي ** ويغفر زلتي قبل افتضاحـــي
فيا ليت شعري كيف حالك وقد فاتك هذا الثواب المكرم، وتجاوزك هذا الأجر المعظَّم؟
وفي الختام:
الصوم جنة أقوام من النـــــــــــــار ** والصوم حصن لمن يخشى من النار
والصوم ستر لأهل الخير كلهـــــــم ** الخائفين من الأوزار والعـــــــــــــار
والشهر شهر إله العرش منَّ بــــــــه ** رب رحيم لثقل الوزر ستـــــــــــــار
فصام فيه رجال يربحون بــــــــــه ** ثوابهم من عظيم الشأن غفــــــــار
فأصبحوا في جنان الخلد قد نزلوا ** من بين حور وأشجار وأنهــــــــــار
فاعرف يا رعاك الله قدر هذه النعمة التي بلغك الله عز وجل إيَّاها، وفضل هذه الأيام والليالي التي لا يكاد أحد يحيط به.
والله الله في اغتنامه، والحرص على صيامه وقيامه.
الله الله في اغتنام هذه الفضيلة في هذه الأيام القليلة، لتعقبكم النعمة الجزيلة، والدرجة الجليلة، والراحة الطويلة إن شاء الله، فهذه والله الراحة الوافرة، والمنزلة السائرة، والحالة الرضية، والجنة السرية، والنعمة الهنية، والعيشة الرضية، لا تنال إلا بالوقار لهذا الشهر الذي عظَّمَه الجبَّار، وفضَّل به محمدًا المختار صلى الله عليه وآله وسلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________________________
الكاتب: بكر البعداني
Source link