التأمل في قضية لطالما نظرت إلى ملمحها في ديننا الحنيف، وأعني به ملمح الجماعة ومكانتها ودورها وأهميتها في شرائع الإسلام وشعائره،
محمد بوقنطار
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ :
«خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ : نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ » ))
ليس،ولم يكن القصد من تصدير هذه الرواية الصحيحة الفصيحة التدليل على سنّية صلاة التراويح، أو الاسترسال في الكلام الذي يغوص ويتماهى مع ما يخدم التمييز والفصل الكائن بين البدعة في نسقها اللغوي وسياقها الشرعي، وإنّما الأمر يذهب مذهب التأمل في قضية لطالما نظرت إلى ملمحها في ديننا الحنيف، وأعني به ملمح الجماعة ومكانتها ودورها وأهميتها في شرائع الإسلام وشعائره، ومن ثم التقعيد لحقيقة الطابع المؤسساتي لهذه الشعيرة وتلك الشريعة في ظل دولة الإسلام، وانظر وأنت تدور في فلك السنة التي فعلها النبي عليه الصلاة والسلام ليالي معدودات ثم تخلى عنها مخافة أن تفرض وخبر السماء لم ينقطع جاد وصله بعد، كيف عزّ على سيدنا عمر رضي الله عنه، فلم يُطق أن يرى وهو ولي أمر المؤمنين الناس أوزاعا متفرقين، ثم اعطف بعد هذا النظر باستحضار ذلك الفارق بمناسبة الحض والترغيب بين صلاة الفرض وتأديتها جماعة وصلاة الفرض للفذ وما بينهما من تفاوت قد تعاظم أجره وثوابه تحت طائلة أدائه في ثوب الجماعة، وقد تراصت الصفوف وتحاذّت الأقدام وتقاصفت المناكب واعتدلت الأبدان وخشعت الجوارح وتجانست الأرواح وتشاركت الأنفاس وتوحدت الحركات بين متبوع راتب ومتابعين مريدين مطيعين، وكأنك أمام جسد واحد متى ما تحرّك منه عضو حاكته في حركته سائر الأعضاء…
وهذا رمضان قد أقبل بهالته الروحية فأصبغ على الأمة بلفظ “كُتب” إمساكا جماعيا قد استوى في كفِّه وصيامه الغني والفقير،والكهل والشديد الكبير…
ثم يأتي خامس الأركان صاهرا في كنف البيت المحرم ذلك البَكُّ من أجناس المسلمين موحدا بينهم في المناسك والمشاعر، لاغيا اختلاف الألسن، مقاربا بين مريديه المنطلقين من كل فج عميق…
إن ملمح الجماعة إذاً في السلوك التعبدي الشعائري قد جاء مجافيا مخاصما لكل فرقة من شأنها أن تمزق هذا التراص أو تذهب ريح العقول الموحدة المنيبة، ومن تتبع غرز الآيات البيِّنات والأحاديث الشريفة وقف على حجم وقيمة عنصر الاجتماع وآلية الجماعة في حياة الإسلام وسيرة المسلمين، حيث كلّما قويت عروة هذا الاجتماع أنتج جماعة من الرعايا ومؤسسة قوية عادلة ترعى شؤون هذه الجماعة، تُنظم المعاش والأرزاق وتفرض وصايتها على الذمم والأعناق، وتكون وسطا بين الحق والواجب، بينما تكثر الفتن ويفشو الهرج وتتراكم المآسي، وتتغوّل فداحة المغارم وتموت في النفوس رابطة الأخوة الإسلامية، وتتحوّل الأقليات إلى خلايا متمردة وأسباب موهنةمتصوّلة تأكل دواخل الجسد المريض المتهالك حتى يصير لأكلها واعتسافها ضجيج ونياحة، وهذا كائن وغيره من المهلكات متى ما ترهل حبل الجماعة وتعطلت يد المؤسسة وانحسر ضوء الولاية، وضعف وازع الإيمان وصار الناس لا يخافون من آجل عقاب الله، فلا يرعوون ولا ينزجرون ولا يكفون عدوانهم عن خلق الله إلا تحت طائلة الخوف من العقوبة العاجلة التي أمر تنفيذها بيد ولي الأمرأو بيد غيره من البغاة، وقد قيل إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ومن ثم قال الإمام بن المبارك راجزا:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا////بعروته الوثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان مظلمة////في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخليفة لم تأمن لنا سبل////وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه وإليه، كما إلى أهميته في مناخ يطبعه الضعف والوهن وقد فارقت الأمة مقصورة القيادة، وحصل أن تسفّلت عن منزلة الأعلون، وقد سحب بساط التمكين من تحت أقدامها حتى وُصفت بالرجل المريض، مفاد هذا الأمرالإشارة إلى ذلك الثقل الذي وصل بالمسلمين نخبهم قبل عوامهم إلى التبرء في معرّة وانسلاخ وإنكار للكثير من الآيات البينات والأحاديث النبوية والآثار الصحيحة التي جاء في طي وحيها الكلام عن الحدود والجهاد وأمور التكفيروعلاقتنا بالآخر زمن الحرب والسلم،وفرضية الإرث بين الذكر والأنثى، وموقف الإسلام من منافقي الداخل وأعداء الخارج، ووضعية المرأة وحجابها ونقابها وإمساكها وتسريحها زمن غلبة أو تغليب منظومة الحقوق الكونية، وإنما جاء هذا الثقل وزاد وزنه لاعتقاد الكثير من المسلمين أنها نصوص قد وجّهها المشرع الحكيم إلى الناس أشتاتا، فناء بحملها الفرد توهما أو تجاوزا أو تطرفا منه، بينما كل السياقات القرآنية والحديثية قد دلّت على أنّها نصوص يرجع أمر تنفيذها وتطبيقها في هذا المقام والخصوص إلى المؤسسة أي إلى ولاية الأمر وما انضوى تحت إمرتها من سلطات قضائية جد متخصصة، ولا شك أن العالم يفتي في الحالة لا العين، فأحكامه تنظر في عمومات الأفعال لا في أعيان مرتكبيها، على أن تنزل أحكام الحالة على العين من طرف القاضي المسلم الذي تولى منصب القضاء في ظل ولاية الأمر الشرعية التي حازت أصول البيعة الشرعية، ولا شك أن من تجنب الاجتزاء المدخون فقرأ نصوص الحدود والقصاص والجهاد والرباط ونوازل التكفير والعلاقة بالآخر معاهدا أو ذميا أو محاربا، رابطا محافظا على مكانتها في السياق بين اللاحق والسابق مبقيا على ما احتف بها منقرائن، وكان في قراءتها منصفا متجردا طالبا للحق تبيّن له أنّها نصوص موجهة إلى المؤسسة لا إلى أيّها الناس، ولذلك كان الجهاد خارج إطاره الشرعي المؤسساتي، وضوابطه الأخلاقية المرعيةبغيا وقطعا للطريق وحرابة تستوجب الحد والتعزير على الخائضين فيه المتلبسين بزعمه بغير وجه حق ولا علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولك أنتقيس على هذا سائر الشرائع والأحكام المتعلقة بحفظ المقاصد الكبرى الضامنة بعد فضل الله للمسلم وغيره من الناس العيش الكريم الذي مفاده إقامة الشعائر وإعلانها في جو تتكفل فيه الدولة بضمان حق الإطعام من الجوع والأمن من الخوف، وأعظم بهما من نعمتين يحظى بهما المواطن داخل نسيج جماعي يؤمن أفراده إيمانا راسخا أن الأحكام الدينية لا يمكن أن تقوم بدورها في صفوفهم إلا وهم مستمسكون بقيمتها الغيبية، بينما هي بيد سلطان يقضي بها بين الناس في عدل ويرعى مصالحهمبها في فضل…
وإن المستقرئ المتتبع لسيرة علماء الأمة وورثة الأنبياء العاملين من الربانيين المعتبرين المتقدمين منهم والمتأخرين، ليقف على حقيقة مفادها أن التاريخ لم يسجل عنهم أو عليهم أنهم كانوا يشرعنون ويسوّغون ويبرّرون ما شان من الأفعال وجار من الأعمال لعصابة من قطاع الطرق أو من الخوارج البغاة أو لأحد من أيّها الناس، وإنما المأثور عنهم في هذا المقام،والمحفوظ لهم في مظان السير وتاريخ الرجال أنهم أدّوادورهم المنوط بهم في السلم والحرب وزمن القوة والوهن مبايعين في المنشط والمكره لولاة أمور المسلمين، فلم يحصل أن سمحوا لفرد متجرد عن وصف،أو ليس ذا مقام رسمي أن يقيم حدا أو أن ينزل حكما أو يتولى تعزيرا، أو يرمي أحدا بتكفير يخرجه من الملة يستبيح به ماله وأهله وولده، بل نجدهم قد تصدوا لكل جهل ألبسه أهله ظلما وعتوا ثوب العلم ومسلاخ العدل والفضل.
ولذلك كان ولا يزال من الإنصاف أن نشهد لهم بشهادة نقر لهم بها ومن خلالها أنهم لم يكونوا يوما بعيدين عن ميادين الواجب، غائبين عن ثغور المجاهدة بالمال والنفس، بل وجدناهم قد عالجوا الأعراض وطبّبوا الأمراض، ولم يثبت على واحد من معشرهم أنه قد ثقل عليه البوح بحق، أو تعرّى يوما من حقيقة حملتها آية أو حديث من الوحي، لأنهم بكل بساطة عاشوا يميِّزون بين ما لهم من حق وما خُصوا به من درجة، وما عليهم من واجب قد تعلق بذمتهم العلمية والمعرفية غير المنفكة عن ذمتهم الأخلاقية والأدبية، وقد تحرّروا من إسار النزوات ولم ينهزموا في ما خاضوه من غزوات ضد الغرائز المريضة، ونعني بها غريزة اللحم والدم التي تحرّرت من سيطرة وسطوة العقيدة الصحيحة السليمة التي جنبتهم نقيصة أن تكون الدنيا أكبر همّهم ومبلغ علمهم رضي الله عنهم وحاشاهم.
وإنما حصل لهم هذا التوفيق لإثباتهم الطابع الجماعي للأمة في تبنيها لمفهوم الجماعة بمحدّد العقيدة ومعيارها الفاصل أولا ثم تحت طائلة المحدّد السياسي ثانيا، بينما حصل لغيرهم الخذلان وسيطرت على وجدانهم خشية الناس أشد من خشيتهم من الله، حتى رأيناهم وسمعناهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويتبرؤون في جحود طافح من آيات قد ضمّ سياقها أمرا بإقامة حد أو إعداد قوة من أجل إرهاب عدو متربص مخاتل، أو نهيا عن منكر يُذيب في تجاسره كل فارق بين مؤمن وكافر وبين محسن ومجرم وبين مسلم موحد ومشرك جاحد، مع أنّهم لو فقهوا واستنطقوا هذه النصوص لأجابتهم أن أمانتها هي على كاهل ولاية الأمر في غمرة جماعة تدين لربها ثم لولي أمرها بما تفرضه أصول العقيدة الإسلامية وضوابط الحكم والحاكمية في ظل عين المعتقد، الذي ليس في مقابله إلا البغي والتفرق وذهاب الريح.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97
الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
Source link