وقفات مع قوله تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم }

منذ حوالي ساعة

في هذه الآيات الكريمات يأمر الله تعالى عباده المؤمنين المتقين بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 – 136].

 

في هذه الآيات الكريمات يأمر الله تعالى عباده المؤمنين المتقين بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض.

 

والمسارعة إلى المغفرة إما استغفار وإما عمل صالح، والاستغفار أن يقول: اللَّهم اغفر لي، أستغفر الله، وما أشبه ذلك؛ لأن من الأعمال الصالحة ما يكفر الله به الخطايا؛ مثل الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والعمل الصالح يذهب العمل السيئ قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}؛ روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ وأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرْاَهُ قَالَ: فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ»[1].

 

وهذا يدل على أن الجنة فوق السماوات، وأما النار فهي في أسفل السافلين، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وعلى هذا فلا يكون في الآية إشكال إطلاقًا، فمعنى ذلك أن هذه الجنة عرضها عرض السماوات والأرض، أما طولها فقال بعض أهل العلم: إنه إذا كان عرضها السماوات والأرض فطولها أعظم وأعظم؛ لأن العادة أن العرض دون الطول، ولكن الصحيح أن عرضها وطولها واحد، إذ ليس لها عرض وطول، وذلك لأنها مستديرة، وليست مربعة، وإذا كانت كذلك فإن عرضها يكون طولها، هذا هو الصحيح الذي صححه جماعة من أهل العلم، ثم وصف المتقين وأعمالهم فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}؛ أي في حال عسرهم ويسرهم؛ إن يسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئًا ولو قل.

 

قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}؛ أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم، وهو امتلاء قلوبهم من الخنق الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ويصبرون عن مقابلة السيئ إليهم.

 

قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، يدخل في العفو عن الناس العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن السيئ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه ويكون أجره على ربه الكريم لا على العبد الفقير؛ كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].

 

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وهذا بشرط أن يكون ذلك عن قدرة لا عن عجز، أما عن العجز فإنه مذمة، ولهذا قال الشاعر يذم قبيلته:

إِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَـــــــدَدٍ  **  لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا 

يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً  **  وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَـــــانَا 

 

لماذا؟ لضعفهم وعجزهم، ولهذا قال:

فَلَيْتَ لِي بِهِمِ قَوْمًا إذَا رَكِبُوا  ** شَدُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا وَرُكْبانَا 

 

أما العفو عن الناس، فإنه عام وشامل، ولكنه ليس على عمومه بالاتفاق، فإن الإساءة إذا كانت في حق الله فهي لله، وليس لأحد أن يعفو عنها، فلو زنا رجل بمحرم رجل، وأراد أن يعفو عنه قلنا: لا يمكن، الحق ليس إليك، والله تعالى يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، أما إذا كان حقًّا للإنسان ليس فيه شائبة حق لله، فهذا ينظر فيه، أي ليس على عمومه بل ينظر فيه، إن اقتضت المصلحة العفو فالعفو خير، وإن اقتضت المصلحة المؤاخذة فالمؤاخذة خير، وإن لم تقض لا هذا ولا هذا بأن تساوى الأمران، فالعفو خير؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237].

 

والدليل على هذا أن الله تعالى قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]،يُفهم منه أن من عفا بدون إصلاح فلا أجر له بل قد يأثم على عفوه[2].

 

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[3]،وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليم جاهلهم ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم على اختلاف أحوالهم، وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى، وكف الأذى واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور فقد قام بحق الله وحق عبيده.

 

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أنفسَهم}: الفاحشة ما يستفحش شرعًا أو عرفًا؛ مثل الزنا؛ قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وكذلك نكاح ما نكح الآباء وهو أيضًا فاحشة؛ قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]، ولكن في باب الثواب والعقاب الرجوع إلى الشرع، ولهذا فسر بعض العلماء المراد بالفاحشة الكبيرة، فهم إن صدر منهم بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم وما توعد به العاصين، ووعد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم والستر لعيوبهم مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها، فلهذا قال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

 

أولئك «الموصفون بتلك الصفات» {جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، تزيل كل محذور {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، فيها من النعيم المقيم والبهجة والسرور والبهاء والخير والسرور والقصور، والمنازل الأنيقة العاليات والأشجار المثمرة البهية، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات {خَالِدِينَ فِيهَا}، لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلًا، ولا يغير ما هم فيه من النعم، {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}، عملوا لله قليلًا فأجروا كثيرًا، فعند الصباح يحمد القوم السرى، وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملًا موفرًا[4].

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] برقم (2790).

[2] تفسير القرآن الكريم، سورة آل عمران للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2/ 174).

[3] صحيح البخاري برقم (5)، وصحيح مسلم برقم (9).

[4] تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله (ص157-158)، وتفسير الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لسورة آل عمران (2/ 181).

________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *