كيف فهم العلماء حديث (أدِّ الأمانةَ إلى من ائْتَمنَكَ)؟ – أحمد عبد المجيد مكي

منذ حوالي ساعة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانةَ إلى من ائْتَمنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَك» . [رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب]

دكتور : أحمد عبد المجيد مكي

نص الحديث :

 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانةَ إلى من ائْتَمنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَك» . [رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب] .

الحكم على الحديث:

    اختلف العلماء في الحكم على هذا الحديث، فمهنم من صححه- كالحاكم والذهبي وابن السكن وابن تيمية وابن القيم والشوكاني والألباني، ومنهم من ضعفه- كأبي حاتم الرازي والبيهقي، وقال الشافعي: ليس هذا بثابت عند أهل الحديث، ولو كان ثابتا لم يكن فيه حجة ، وقال ابن الجوزي: لا يصح من جميع طرقه ، وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح، وقال العلامة ابن باز: الأقرب عدم صحته؛ لهذا تكلم فيه الأئمة.

معنى الحديث:

   الحديث يحض على أداء الأمانة، وينهى عن خيانة الإنسان لمن خانه، وأنه لا يقابل الإساءة بالإساءة، والأولى والأحرى ألّا يخون من لم يخنه.

وهنا سؤال :

  إذا كان لي حق على إنسان وجحده وأنكره أو اعترف به لكنه امتنع عن أدائه ، ثم جاءت فرصة لكي أخذ- كل مالي أو بعضه- من مال هذا الجاحد، فهل يجوز ذلك؟

  هذه المسألة يعبر عنها عند العلماء بمسألة الظّفَر، وهي أخذ الحق سراً أو خفية، يقال ظفِرَ الشَّيءَ و ظفِرَ بالشَّيءِ: فاز به وناله، حصل عليه، ويقال : أظفرَه اللهُ بعدوِّه، وأظفرَه اللهُ على عدوِّه: مكّنه منه وغلّبه عليه.

وقد اختلف العلماء في حكمها، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها، ولهم في ذلك تفريعات، أقتصر هنا على أهم أقوالهم فيما يأتي.

المانعون :

 – ذهب الإمام ابن القيم– في كتابه إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان– إلى أنه لا يجوز للمظلوم أن يأخذ من مال من ظلمه حتى وإن كان هذا الأخذ بنفس قيمة الحق دون اعتداء، فقال ما مختصره:

إن كان سبب الحق خَفيّا، بحيث يُتهم بالأخذ ويُنسب إلى الخيانة ظاهراً، لم يكن له الأخذ – وتعريض نفسه للتهمة والخيانة، وإن كان فى الباطن آخذا حقه، وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها، وبه تجتمع الأحاديث. فإنه قد روى أبو داود فى سننه حديث: ” أَدِّ الأَمَانَةَ … الحديث.

وهناك فروق بين الأخذ في هذه المسألة والأخذ فى المواضع التي أباحت فيها الشريعة الأخذ ، من هذه الفروق : ظهور سبب الحق في هذه المواضع، فلا يُنسب الآخذ إلى الخيانة، ولا يتطرق إليه تهمة، ولتعسّر الشكوى فى ذلك إلى الحاكم، وإثبات الحق والمطالبة به.

 والذين جوزوا الأخذ في هذه المسألة يقولون: إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة، لم يكن ذلك خيانة، فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه.

 وهذا ضعيف جداً، فإنه يبطل فائدة الحديث، فإنه قال: “ولا تَخُنْ مَنْ خانَكَ” فجعل مقابلته له خيانة، ونهاه عنها، فالحديث نص في المسألة.

 – كما استشهد الإمام ابن القيم بهذا الحديث على وجوب سد الذرائع، فقال ما نصه: ومن ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه، وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه، فقال لمن سأله: عن ذلك: “أَدِّ الأَمَانَةَ… الحديث

   لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة…، مع أن ذلك أيضاً ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته، فإن النفوس لا تقتصر فى الاستيفاء غالبا على قدر الحق. انتهى من إغاثة اللهفان لابن القيم.

القائلون بالجواز:

 – استند القائلون بالجواز إلى أدلة من القرآن والسنة منها، قول الله تعالى: { {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} } [النحل: 126]، وقوله تعالى: { {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} } [الشورى: 41]، وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] .  وهذه النصوص ونظائرها قاطعة في موضع الخلاف.

– وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه (بَابُ قِصَاصِ المظلوم إِذا وَجَدَ مال ظالمه). علق الحافظ ابن حجر على هذه الترجمه بقول : أي هل يأخذ منه بقدر الذي له ولو بغير حكم حاكم، وهي المسألة المعروفة بمسألة الظفر، وقد جنح المصنف -أي البخاري- إلى اختياره ، ولهذا أورد أثر بن سيرين على عادته في الترجيح بالآثار..([1]).

   ونص الأثر الذي ذكره الإمام البخاري عن ابن سيرين هو: ” يُقَاصُّهُ… وقرأ: {{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}} [النحل: 126]، ومعنى يُقَاصُّهُ: أي يأخذ منه مثل ماله ([2]).

 ثم ذكر البخاري تحت هذا الباب حديثين- حديث هند وحديث الضيافة- التاليين:

– عن عائشة، أن هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال: « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .

– أما حديث الضيافة، فعن عقبة بن عامر الجهني قال : « قلنا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يَقْرُونَا (أي: لا يقدمون لنا ضيافة) ، فما ترى فيه؟ فقال: إن نزلتم بقوم فَأُمِرَ لكم بما ينبغي ( أي: بما يقدم عادة) للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف» .

والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم أباح الأخذ في الحديثين، فدل هذا على أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه وهو قول الشافعي وجماعة من العلماء، وهو أيضا قول علي بن أبي طالب، وابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي وعطاء.

طائفة من أقوال العلماء :

     قال الخطابي في كتابه معالم السنن: وحديث (أدِّ الأمانة) يُعدُّ في الظاهر مخالفاً لحديث هند، وليس بينهما في الحقيقة خلاف، وذلك لأن الخائن هو الذي يأخذ ما ليس له أخْذه ظلماً وعدواناً، فأما من كان مأذوناً له في أخذ حقه من مال خصمه واستدراك ظلامته منه فليس بخائن، وإنما معناه: لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته، وهذا لم يخنه لأنه يقبض حقاً لنفسه، والأول يغتصب حقا لغيره.

    قال ابن العربي: وهذه مسألة متكررة على ألسنة الفقهاء ولهم فيها أقوال …. والصحيح منها جواز الاعتداء، بأن تأخذ مثل مالك من جنسه أو غير جنسه إذا عدلت، لأن ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اضطررت. وإلى مثل هذا ذهب القرطبي في تفسيره.

 – وللإمام ابن حزم في كتابه – المحلى- تقرير مفصل ومطول، قال ما مختصره: كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه.

وسواء كان قد خاصمه أو لم يخاصمه، استحلفه أو لم يستحلفه فإن طولب بذلك وخاف إن أقر أن يغرم فلينكر وليحلف، وهو مأجور في ذلك. فإن لم يفعل ذلك فهو عاص لله عز وجل.

برهان ذلك … ثم ذكر جملة من النصوص الشرعية التي اشرت اليها سابقا، ثم قال:

وخالفنا في هذا طوائف واحتجوا بحديث: أد الأمانة إلى من ائتمنك …. وكل هذا لا شيء فالحديث طرقه كلها ضعيفة.

ثم لو صحت لما كان فيها حجة؛ لأن نصها «لا تخن من خانك، وأد الأمانة إلى من ائتمنك» وليس انتصاف المرء من حقه خيانة، بل هو حق واجب، وإنكار منكر، وإنما الخيانة أن تخون بالظلم والباطل من لا حق لك عنده، ولا من افترض الله تعالى عليه أن يُخرج إليك من حقك، أو من مثله إن عدم حقك، وليس رد المظلمة أداء أمانة، بل هو عون على الخيانة.

الخلاصة :

– الذي يظهر لي والله أعلم أن طرق الحديث كلها ضعيفة لا يتقوي بعضها البعض، ولذلك استنكره المتقدمون وعلى رأسهم الشافعي وأحمد وأبو حاتم وحكموا عليه بالضعف.

– إذا كان الحق ثابتا وتعذر الوصول إليه ، فعمومات الكتاب والسنة قد دلت على جواز أخذه من مال الظالم ، لكن بشرط أن لا يترتب على ذلك فتنة أو مفسدة.

وهذه العمومات لا يعارضها حديث: “أد الأمانة إلي من ائتمنك..”،…. لضعفه من جهة ، وعلى فرض صحته فليس نصا في محل النزاع، ولكن معناه عند اهل العلم: أي لا تعامل الخائن بمعاملته،… وأما من عاقب بمثل ما عوقب به، وأخذ حقه من مال الجاحد؛ فهذا استيفاء وليس بعدوان ولا خيانة.

 


([1]) فتح الباري لابن حجر (5/ 108).


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *