الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقد أجمع أهل العلم على وجوب القضاء على من أفطر في الصيام الواجب.
أما قضاء صوم التطوع لمن قطعه ولم يكمله، فالراجح من قولي أهل العلم هو عدم وجوب القضاء على من أفسد صوم التطوع؛ واحتجوا بأن القضاء يتبع المقضي عنه، فإذا لم يكن واجبًا، لم يكن القضاء واجبًا، ولكن يندب له القضاء، سواء أفسده بعذر أم بغير عذر، وهو مذهب الشافعية الحنابلة.
وذهب الحنفية والمالكية إلى وجوب قضاء صوم التطوع عند إفساده؛ واحتجوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة – وكانت ابنة أبيها – فقالت يا رسول الله إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فقال: “اقضيا يوما آخر مكانه”، وأجيب بأنه حديث ضعيف، وعلى فرض صحته فإنه محمول على الاستحباب جمعًا بين الأدلة.
وخص المالكية وجوب القضاء بالفطر العمد الحرام، وذلك كمن شرع في صوم التطوع، ثم أفطر من غير ضرورة ولا عذر.
ومن أجود ما احتج به الشافعية والحنابلة على عدم وجوب إتمام نافلة الصوم، وعدم وجوب القضاء إن فسدت؛ ما رواه مسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذات يوم: “يا عائشة، هل عندكم شيء؟”، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: “فإني صائم”، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زَوْرٌ، قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله: أهديت لنا هدية، أو جاءنا زور، وقد خبأت لك شيئا، قال: “ما هو؟”، قلت: حيس، قال: “هاتيه”، فجئت به فأكل، ثم قال: “قد كنت أصبحت صائمًا”، قال طلحة: فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث، فقال: “ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها”.
وروى أحمد وأصحاب السنن من حديث أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه، قال: “الصائم المتطوع أمين نفسه، أو أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر وفي رواية”.
إذا تقرر هذا، فلا يجب عليك قضاء ما أفطرته من صيام التطوع؛ لأن الله تعالى بيّن أن ما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه، الكتاب المنزل من السماء، والرسول المؤيد بالأنباء؛ كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (19/ 67-70):
“… قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }[النساء: 59]، فأمر بطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء، إذا لم يتنازعوا، وهو يقتضي أن اتفاقهم حجة، وأمرهم بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فأبطل الرد إلى إمام مقلد، أو قياس عقلي فاضل. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}[البقرة: 213]، فبين أنه بالكتاب يحكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه؛ وقال تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُنَ}[الأعراف: 2، 3]، ففرض اتباع ما أنزله من الكتاب والحكمة، وحظر اتباع أحد من دونه؛ وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}[العنكبوت: 51]، فزجر من لم يكتف بالكتاب المنزل؛ وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام: 130]، الآيات؛ وقال تعالى: {{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
فدلت هذه الآيات على أن من أتاه الرسول فخالفه، فقد وجب عليه العذاب، وإن لم يأته إمام ولا قياس.
وأنه لا يعذب أحد حتى يأتيه الرسول، وإن أتاه إمام أو قياس. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13، 14]، الآية.
فبين أن طاعة الله ورسوله موجبة للسعادة، وأن معصية الله موجبة للشقاوة، وهذا يبين أن مع طاعة الله ورسوله لا يحتاج إلى طاعة إمام أو قياس، ومع معصية الله ورسوله لا ينفع طاعة إمام أو قياس.
ودليل هذا الأصل كثير في الكتاب والسنة، وهو أصل الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وهو متفق عليه بين الذين أوتوا العلم والإيمان، قولاً واعتقادًا، وإن خالفه بعضهم عملاً وحالاً؛ فليس عالم من المسلمين يشك في أن الواجب على الخلق طاعة الله ورسوله، وأن ما سواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها الله ورسوله”. اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
Source link