الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الدعوة إلى الله عز وجل هي الوظيفة الأكمل، والمهمة العظمى لكل الناس حتى يحذوا حذو الأنبياء، وقد خُصَّت هذه الأمة بهذه الفضيلة؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فكأن الله جَعَلَ خَيْرِيَّة الأمة لكونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

أتكلم مع حضراتكم اليوم عن شعيرة من شعائر الإسلام، بل هو القطب الأعظم للدين، وهو الذي ابتعث الله من أجله الأنبياء أجمعين، ولو طُوي بِساطه لاضمحلَّت الديانة، وفَشَتِ الضلالة، وظهر الفساد، وخرِبت البلاد، وهَلَكَ العباد، ولم يشعروا بهذا إلا يوم التنادِ، وقد كان الذي خافوا أن يكون، وإنا لله وإنا إليه راجعون؛ هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو وظيفة النبيين، وعمل الصالحين، وجهد الدعاة المخلصين؛ فمن {أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

 

فقد بقِيَ نوح عليه السلام يروِّض قومه قرابة الألف عام، فلم يؤمن معه إلا القليل.

 

وكذلك فعل سائر الأنبياء عليهم السلام، إلى أن نصل إلى خاتمهم صلى الله عليه وسلم الذي ظلَّ يدعو وينصح، ويبشِّر ويُنذر؛ حتى قال له ربه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

 

فالدعوة إلى الله عز وجل هي الوظيفة الأكمل، والمهمة العظمى لكل الناس حتى يحذوا حذو الأنبياء، وقد خُصَّت هذه الأمة بهذه الفضيلة؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فكأن الله جَعَلَ خَيْرِيَّة الأمة لكونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

 

والناظر في حال الأمة الآن يضرب كفًّا بكفٍّ؛ فلقد أصبح شعار الناس في هذه الآونة: هذا ليس من شأني فلا أنشغل به.

 

فانطلاقًا من خطورة ضياع هذه الشعيرة، كانت هذه الكلمات، وحتى لا تضيع الكلمات سُدًى، وحتى تعم بإذن الله تعالى الفائدةُ؛ فسيكون الكلام محصورًا في أربعة عناصر:

1) تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودوافعه.

2) أدلة من الكتاب والسنة.

3) أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4) نماذج عملية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

فأعيروني قلوبكم وأسماعكم، وها هي بضاعتي تُعرَض عليكم، وبنات أفكاري تزف إليكم، فإن لاقت كفؤًا كريمًا، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وإن كان غير ذلك، فالله وحده هو المستعان.

 

أولاً: التعريف والدوافع:

المعروف هو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ويأمر به من الإيمان والعمل الصالح.

المنكر هو اسم جامع لكل ما يستقبحه الشرع، ولكل ما يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ولكن ما هي دوافعه، أو بالأحرى لماذا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟

 

(1) رجاء ثواب الله تعالى:

إن كل عمل يقوم به أحدنا في هذه الدنيا إنما يقوم به لتحصيل الأجر والثواب من الله عز وجل؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].

 

لذلك يجب على الآمِر بالمعروف الناهي عن المنكر ألَّا يلتفت إلى محامد الناس وثنائهم عليه، وأن يكون عمله كله مُتوجِّهًا لله سبحانه وتعالى.

 

(2) الخوف من العقوبة على تَرْكِهِ:

• فلنعلم – إخوتاه – أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الوقاية التي يقي بها الله الناس من سائر الشرور والعذاب، فمتى تركوا هذا الواجب، استحلَّ الناس الوقوع في الذنوب والآثام مما يستلزم نزول العذاب بهم جميعًا.

 

قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

 

• وأخرج ابن ماجه، عن عبيدالله بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يُعمَل فيهم بالمعاصي، ثم يقدروا على أن يُغيِّروا ولا يغيروا، إلا أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب».

 

(3) النصيحة:

النصيحة هي أساس الدين؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

 

ولقد كرر الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة النصيحة؛ اهتمامًا بالمقام وإرشادًا للأمة أن يعلموا أن الدين هو النصيحة؛ وهي القيام التام بهذه الحقوق الخمسة.

 

ثانياً: الأدلة من الكتاب والسنة:

(1) قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]؛ قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104]؛ أي: مُنتصبة للقيام بأمر الله تعالى في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

 

(2) قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]؛ يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم؛ فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قال: (أنتم خير الناس للناس، تأتون بهم والسلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام)، والمعنى أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس.

 

(3)  {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]؛ قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: قال المفسرون: افترق أهل القرية ثلاث فرق:

• فرقة صادت وأكلت.

• فرقة نهت وزجرت.

 

• فرقة أمسكت عن الصيد وقالت للفرقة الناهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164]؛ أي إنهم لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مُقلعين، فردَّت الفرقة الناهية: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164]، والمعنى أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء؛ عذرًا إلى الله تعالى، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]؛ أي إنه من الجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية.

 

أما أدلة السنة؛ فمنها:

(1) ما رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم مُنْكرًا فلْيُغَيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

 

(2) ما رواه البخاري وأحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ القائم على حدود الله والْمُدْهِن فيها، كمَثَلِ قومٍ اسْتَهَمُوا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا من الماء، مرُّوا على مَن فوقهم، فقال الذين في أعلاها: لا نَدَعُكم تصعدون فتُؤذونا، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا جميعًا».

 

(3) ما رواه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة».

 

(4) ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس في الطرقات» ، قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أبيتُم إلا المجلسَ، فأعْطُوا الطريق حقَّه» ، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غضُّ البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

 

(5) ما أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: ((لما نزلت هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بلِ ائتمروا بالمعروف، وتناهَوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحًّا مُطاعًا، وهوًى متَّبعًا، ودنيا مُؤثَرَة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا يَدَانِ لك به، فعليك نفسك، ودَعْ عنك أمرَ العوام؛ فإن وراءكم أيامًا الصبرُ فيهن مِثْلُ القبض على الجَمْرِ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم».

 

ثالثاً: أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(1) الحكمة: وهي فهم الأمور على حقيقتها ووضع الأمور في نصابها.

 

والحكمة قائمة على العلم والفقه في الدين؛ ولذلك قال قائل: إن الحكمة قائمة على ركنين أساسيين:

1- الفقه والمعرفة.

2- العلم بطبائع البشر.

 

لذلك لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر، إلا من توافرت فيه ثلاث خِصال، كلها من الحكمة:

1- الرِّفق.

2- العدل.

3- العلم.

 

والعلم وحده لا يكفي إلا إذا أُضيف له الفَهم الصحيح، وإلا ربما حدث الفساد بقصد أو دون قصد.

 

ويتضح ذلك بمثال من السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام؛ فقد روى أبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((خرجنا في سَفَرٍ، فأصاب رجلًا منا حجر فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخْبِر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألَا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِيِّ السؤالُ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصِر – أو يعصِب – على جُرْحِه خِرْقة، ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده».

 

ويتضح لنا أن العلم إن لم يقترن بالحكمة ربما يضر أو يقتل.

 

(2) الموعظة الحسنة: فالأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو التذكير والنصح بلِينِ القلب والجانب؛ فالكلمة الطيبة صدقة، والرفق ما كان في شيء إلا زانه؛ ولذلك قال تعالى في كلامه عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]؛ الآية.

 

(3) القدوة الصالحة: إن الداعي إلى الله عز وجل لا يدعو الناس بالكلمة فقط، وإنما يدعوهم بسلوكه وتصرفه أيضًا، وحركته وسكونه وعبادته، وعلى قدر قربه أو بُعْدِه من دعوته سلوكًا وخُلُقًا، يكون النجاح أو الفشل.

 

وقديمًا قالوا: من لم ينفعك لحظه، فلن ينفعك وعظُه.

 

ولله در القائل:

يا أيها الرجل المعلم غيــــــــــــــــــره   ***   هلَّا لنفسك كان ذا التعليـــمُ 

تصف الدواء لذي السِّقام وذي الضَنى   ***   كيما يصحَّ به وأنت سقيـــمُ 

ابدأ بنفسك فإنها عن غيِّهـــــــــــــــــا   ***   فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ

فهناك يسمع ما تقول ويكتفـــــــــــي   ***   بالقول منك وينفع التعليـــمُ 

لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثلــــــــــــــــه   ***   عار عليك إذا فعلت عظيـــمُ 

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم

 

رابعًا: نماذج وصور من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

1) في الصحيح أن مروان بن الحكم جاء يومًا ليخطب أو ليصلي صلاة العيد، ولكنه بدل أن يبدأ في صلاة العيد بدأ بالخطبة، فقام رجل وقال: الصلاة قبل الخطبة، ولكن مروان تركه، فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وجذب مروان وقال له: يا مروان، الصلاة قبل الخطبة، فقال له مروان: قد ترك ما هنالك يا أبا سعيد، وأصر مروان وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، قام أبو سعيد وقال للرجل أو قال عن الرجل الذي أنكر على مروان، قال كلمةً آمُل من كل واحد منكم أن يحفظها؛ لأن لها معنًى عظيمًا في مدلولها، قال لهذا الرجل الذي أنكر على مروان وهو أمير المدينة: أما هذا فقد قضى ما عليه.

 

السؤال أيها الإخوة: كل واحد منكم يسأل نفسه: هل كل واحد منا قد قضى ما عليه فيما يرى من منكرات في مجتمعنا وفي أسواقنا؟ هل كل واحد منا قد قام بالواجب الملقى على عاتقه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، أم أنه بدأ يحسب ويضرب أخماسًا في أسداس؛ الوظيفة، والترقية، والنقاط الكثيرة؛ ولذلك يتخاذل عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

 

2) كان الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد بن سرور المقدسي الجماعيلي لا يرى منكرًا إلا غيَّره بيده أو بلسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم قال بعض أصحابه: قد رأيته مرة يُهريق خمرًا فجبذ صاحبه السيف، فلم يَخَفْ منه، وأخذه من يده، وكان قويًّا في بدنه، وكثيرًا ما كان بدمشق ينكر ويكسر الطنابير والشبابات؛ وهما نوعان من آلات المعازف المحرَّمة.

 

وقال الحافظ ابن قدامة: كان الحافظ – أي عبدالغني – لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه، وكنا مرة أنكرنا على قوم وأرَقنا خمرهم وتضاربنا، فسمع خالي أبو عمر، فضاق صدره وخاصمنا، فلما جئنا إلى الحافظ عبدالغني طيَّب قلوبنا وصوَّب فعلنا؛ وتلا: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

 

3) ولنذكر هذه القصة لعبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ حيث مرَّت عليه قطارة وهو بالشام تحمل الخمر، فقال: ما هذه، أزَيْتٌ؟ قيل: لا بل خمر يُباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق فقام إليها، فلم يذر فيها راويةً إلا بَقَرَها.

 

وأبو هريرة إذ ذاك بالشام فأرسل فلان إلى أبي هريرة فقال: ألَا تُمْسِك عنا أخاك عبادة، أما بالغدوات فيغدو إلى السوق يُفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا وعيبنا، قال: فأتاه أبو هريرة فقال: يا عبادة، ما لك وللأمير؟ ذَرْهُ وما حمل، فقال: لم تكن معنا إذ بايعنا على السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألَّا يأخذنا في الله لومة لائم، فسكت أبو هريرة، رضي الله عن الجميع.

 

4) وأما سلطان العلماء، فله شأن آخر؛ إنه العز بن عبدالسلام، المعروف بسلطان العلماء، وله عدة مواقف جليلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك موقفه مع سلطان الديار المصرية، فقد خرج ذلك السلطان في يوم العيد في موكب عظيم، والشرطة مصطفون على جوانب الطريق، وحاشيته يحيطون به، والأمراء يُقبِّلون الأرض بين يديه، والعز رحمه الله يرى ذلك، فنادى السلطان قائلًا: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوِّئ لك مُلْكَ مصر تبيح الخمور؟ فقال: أو يحدث هذا؟ فقال: نعم، في مكان كذا وكذا حانة يُباع فيها الخمر، فقال السلطان: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من عهد أبي، فهزَّ العز بن عبدالسلام رأسه، وقال: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟! فأصدر السلطان أمرًا بإبطال الحانة، ومنع بيع الخمور، وانتشر الخبر بين الناس، ورجع العز إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه يقال له (الباجي)، فسأله قائلًا: يا سيدي، كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أُهينه لئلا تكبُر نفسه فتؤذيه، فقال: يا سيدي، أما خِفْتَه؟ فقال: والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط.

 

5) وهذا أبو بكر النابلسي رحمه الله أحد العلماء الآمِرِين بالمعروف والناهين عن المنكر، كان لا يخاف في الله لومة لائم، كان يصدع بالحق وبما يُؤمر ويُعرض عن المشركين، فاستدعاه الحاكم الفاطمي فقال له: سمعنا أنك تقول: من كان له عشرة أسهم، فلْيَرْمِ النصارى بتسعة ويرمينا بواحد، أصحيح ما يقال عنك؟ قال: لا والله، هذا غير صحيح، لم أقل هذا، قالوا: فماذا قلت؟ قال: قلت: من كان عنده عشرة أسهم فلْيَرْمِ النصارى بسهم، ولْيَرْمِكم بتسعة أسهم، ولم يَخَفْ في الله لومة لائم، فجيء بيهودي أشد الناس عداوة للمؤمنين، فصلب هذا الرجل، وعلقه على خشبة أمام الناس، وأمر اليهودي بسلخه وهو حي، فبدأ يسلخ الجلد من رأسه وهو حي، ثم من وجهه وهو حي، حتى وصل إلى صدره، وكان هذا الإمام يقرأ وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]، فرأف اليهودي لحاله، فطعنه بخنجر في قلبه فمات، أتعرف لماذا؟ لكلمة حقٍّ قالها، لأمر بالمعروف ولنهي عن المنكر.

__________________________________________________________-

الكاتب: رضا أحمد السباعي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *