منذ حوالي ساعة
إن الحديث عن أمير المؤمنين لا ينتهي؛ فالمواقف كثيرة والفضائل عظيمة، ولعل أبرز مواقف عمر بن الخطاب هو موافقة القرآن له.
إن الحديث عن أمير المؤمنين لا ينتهي؛ فالمواقف كثيرة والفضائل عظيمة، ولعل أبرز مواقف عمر بن الخطاب هو موافقة القرآن له.
نعم، لقد وافق الفاروق نزولُ عددٍ من آيات القرآن موافقةً لرأيه، قال ابن عمر: “ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر”.
الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام:
فها هو الفاروق يحدِّثنا عن نفسه؛ فيقول: ((وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله، لو اتخذتَ من مقام إبراهيم مصلًّى؛ فنزلت: {﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾} [البقرة: 125]…))، لم يكن المسلمون يومئذٍ يصلُّون خلف المقام، فأشار عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف مقام إبراهيم؛ لشدة حب عمر لسيدنا إبراهيم عليه السلام، فنزلت الآية يومئذٍ توافق رأيه، فسبحان الله! لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال عن أبي ذر رضي الله عنه: ((إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به))؛ [سنن أبي داود].
آية الحجاب:
((وقلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يَحْتَجِبْنَ؛ فإنه يُكلِّمهن البَرُّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب: {﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾} [الأحزاب: 59]))، لم يكن عمرُ غيورًا على دينه فقط، بل كان غيورًا على أمهات ونساء المسلمين، لقد علِم أن في الحجاب مصالحَ جَمَّةً وحفظًا للأعراض، وحفظًا للمرأة، فإذا كان الطعام يُوضَع عليه غطاء حتى يُحفَظ لكي لا يجتمع عليه الذباب، أفلا تُغطَّى المرأة لتُصان من أعين غير المحارم؟
ولهذا علِم عمر أن المرأة أرفع شأنًا، وأن الحجاب يزيدها طهارة وتقوى للقلب، فالحمد والمنة لله أن وافق القرآن لرأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونزلت آية الحجاب.
اجتماع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغَيرة عليه:
((واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغَيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن؛ فنزلت هذه الآية: {﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾} [التحريم: 5]))، لقد رقَّ قلبُ عمرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما علِم اجتماع أمهات المؤمنين في الغَيرة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف لهم ألَّا يغاروا على مثله؟ فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق زوجاته، فغضب لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما علم بغضبه، فاستأذن في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عما يقول الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «لا، وإنما اعتزلتهن شهرًا، فقال له: أتأذن لي أن أخبر الناس؟ فقال له إن شئت» )).
فخرج عمر ونادى في الناس أن الرسول لم يطلق زوجاته، فنزلت الآية يومئذٍ توافق قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ختام الآية موافقة لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وقال عمر: وافقت ربي أو وافقني ربي؛ ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه، لما سمع قوله تعالى: {﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾} [المؤمنون: 12 – 14]، قال عمر متعجبًا: فتبارك الله أحسن الخالقين، فتبسَّم النبي لنطق عمر، فلما سأله عمر عن سر تبسمه، قال: ((إن الله ختم الآية بما نطقت))، وقد فرح عمر بذلك وقال: وافقتُ ربي، ووافقني ربي.
موافقة القرآن لرأي عمر بن الخطاب في أسرى بدر:
ومن القضايا التي نزل فيها القرآن موافقًا لرأي عمر: قضية أسرى بدر؛ « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ((ما ترون في هؤلاء الأُسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام))، هكذا كانت رقة أبو بكر الصديق، ((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب؟ فقال عمر: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمكِّننا فنضرب أعناقهم، فتُمكِّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكِّنِّي من فلان وهو نسيب لي فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها))، وها هي شدة عمر في الحق، فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قال عمر، لكن القرآن نزل موافقا لرأي عمر» : {﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾} [الأنفال: 67، 68])).
موافقة القرآن لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تحريم الخمر:
ووافق القرآن قول عمر في مسألة تحريم الخمر؛ عن عمر رضي الله عنه قال: ((لما نزل تحريم الخمر قال عمر رضي الله عنه: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة المائدة: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾} [المائدة: 90، 91]))، لقد علِم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قرارة نفسه أن الخمر مُذْهِبة للعقل، والعقل هو مناط التكليف، وحينما يذهب العقل يسقط التكليف، فرأى أن في الخمر يسقط التكليف بإرادة الإنسان فيُحاسَب عليه، على غير من سقط عنه التكليف بغير رضا كمن نزل به المرض أو الجنون، فلا يحاسب على ما لا إرادة له فيه؛ فكان هذا من فطنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخوفه على المسلمين من تبعة شرب الخمر.
موافقة القرآن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في عدم الصلاة على زعيم المنافقين:
ووافق عدم الصلاة على زعيم المنافقين عبدالله بن أُبيِّ بن سلول؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: « ((لما تُوفِّيَ عبدالله بن أُبيٍّ، دُعِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحوَّلتُ حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أعَلَى عدو الله عبدِالله بن أبي القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ يعُد أيامه قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخِّر عني يا عمر، إني قد خُيِّرتُ فاخترت، قد قيل لي» : {﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾} [التوبة: 80]، «لو أعلم أني لو زدت على السبعين غُفِرَ له، لزدتُ، قال: ثم صلى عليه ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجب لي وجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان» : { ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾} [التوبة: 84] إلى آخر الآية، قال: « فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله» ))؛ [رواه الترمذي].
وأما نزول قوله تعالى: {﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾} [البقرة: 98].
قلت: أخرجه ابن جرير وغيره من طرق عديدة وأقر بها للموافقة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى (( «أن يهوديًّا لقِيَ عمر فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدوٌّ لنا، فقال له عمر: من كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين، فنزلت على لسان عمر» )).
وكل هذا من الإلهام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم))؛ [رواه البخاري ومسلم].
قال ابن وهب: تفسير محدَّثون: مُلْهَمون.
وعمر رضي الله عنه هو المحدَّث الْمُلْهَم.
بقلم/ فاطمة الأمير
Source link