منذ حوالي ساعة
قبل أن ترتقي في القصف الصهيوني الغاشم على غزة 2024م كانت قد كتبت الراحلة رئيسة قسم التصاميم في موقع طريق الإسلام في 2014:
قبل أن ترتقي في القصف الصهيوني الغاشم على غزة 2024م كانت قد كتبت الراحلة رئيسة قسم التصاميم في موقع طريق الإسلام في 2014:
بعيداً عن واقع “أكبر سجن” كما يقال، أرى أمي وأبي كل فترة دون منغصات، دون ألم واشتياق، بل ينعم أبي بوظيفته في وطنه دون اللجوء للغربة، صاحب شهادة البكالوريوس ينطلق بأحلامه لإكمال الدكتوراه في وطنه أو الخارج دون أن يخنق المعبر بوادر الحلم، آلاف المشاريع تفتتح دون أن يعيقها شح موارد الإعمار أو سجن التبادل التجاري!
أما قريباً من هذا الواقع فتكمن حكايا، مهما كتبت فيها لا أوفيها حقها؛ ففي كل مرة تفكر المجيء عبر المعبر لابد للون آخر من المأساة أن يكشف عن نفسه، وكل من يعبر له مأساته الخاصة، فالكلمات وإن كتبت تظل غير وفية، ككابوس مررت به وترويه، لكن صعوبة اللحظة لا يقدرها إلا من عاشها. من حواجز التفتيش الصهيونية، لغرف الترحيل والتحقيق المصرية !
قبل أن تبدأ إسرائيل حصارها الغاشم على قطاع غزة، كنا نقطع المسافات إلى الحدود بين الأردن وفلسطين حيث “اسرائيل” تفرض هيمنتها وجبروتها الزائل، بغية الدخول إلى قطاع غزة. من هنا تبدأ رحلة المعاناة، نقدم جوازاتنا وتصاريح الدخول، ننتظر لساعات وساعات تحت رحمة سلطات الاحتلال، ثم يصدر قرار إسرائيلي بمنع والدي وإبعاده عن مسيرنا نحو معبر إيريز (المعبر الشمالي لقطاع غزة)، وإجباره على الذهاب إلى مطار القاهرة والدخول من معبر رفح البري (المعبر الجنوبي لقطاع غزة)، لتعيش أمي ونحن بصغر أعمارنا حينها وحدنا مضايقات الاحتلال في الطريق من الحدود إلى معبر إيريز .
بضعة أمتار وتقف بنا السيارة أن أخرجوا متاعكم، وتبدأ حملة التفتيش، ينبشون الحقائب ويعبثون بها، ثم يتركونا لنرتبها من جديد، يتكرر هذا المشهد مراراً مع كل حاجز تفتيش، كنا نستشعر وصف القرآن لهم {ويسعون في الأرض فسادا}، إذ لا حجة لهم بتفتيش حقائبنا وهي تمر على أجهزة إلكترونية دقيقة! لكنه الفساد، يأبى أن يكون سيد المعاملة، والجبن المتطبع بهم، يرينا عجائبه.
كل ذلك كان عادياً جداً ، في كل مرة نذهب بها إلى قطاع غزة .. ثم جاء قدر الحصار ليقطع شرايين الوصول ، لنبقى حبيسي الغربة تسع سنوات عجاف، مرض جدي خلالها، ولم يستطع والدي السفر للقطاع بسبب إيصاد المعابر وإحكام الحصار، وإذا بخبر وفاته –رحمه الله- يدمي قلب والدي ويملأ عينيه دموعاً أراها للمرة الأولى، من هذه اللحظة قرر والدي زيارة القطاع بأي ثمن. قطعت كل الآمال في معبر إيريز إذ تسيطر عليه “اسرائيل”، وعلقت الآمال في معبر رفح البري المطل على الحدود مع مصر الشقيقة!
لم يشفع جوار الحدود، ولا حتى الدين الواحد أن يكفل لنا ممراً آمناً مع مصر، بل زادت جرعة الإذلال. سمحت مصر أخيراً ، وذلك بعد حرب 2008 على القطاع بفتح المعبر لمدة ثلاثة أيام كل شهر، وذلك بشروط للعابرين: أن يكونوا أصحاب جوازات أجنبية أو إقامات في الخارج أو حالات إنسانية فقط !. عزم والدي الذهاب وعلقنا جميعاً آمالنا بزيارة القطاع بعد سنوات الانقطاع.
أذكر تماماً فرحتنا وآمالنا عند رؤية خبر فتح المعبر في الشريط الاخباري. عقدنا العزم، وأتممنا إجراءات السفر، هبطت طائرتنا في مطار الإسكندرية، حيث الوجهة إلى معبر رفح، ومن هنا يبدأ سباق الأيام الثلاثة، إذ أن أي تأخر يعني أن تكون من العالقين على المعبر للشهر القادم، حيث لا مأوى ولا طعام أو شراب، هي مسافة 10 أمتار أو أقل، تفصلك عن الصالة المصرية حيث ختم الجوازات .
10 أمتار لكنها تعج بآلاف المسافرين، وألوف أخرى من أصحاب البدلات البيضاء والهروات الغليظة، فضلاً عن “الكارات”، التي تفاجئك حاملة حقائبك دون طلب، ليست خدمة مجانية بالطبع! ولك أن تتخيل نظافة المكان، وأصوات صراخ الأطفال ونهيق الحمير –أعزكم الله-، كنا نحتجز جميعاً في هذه المنطقة لساعات تحت حرارة الشمس لحين السماح بدخولنا، وقد يفاجئك قرار مصري بعدم الرغبة في فتح المعبر اليوم وهذا ما حدث!
لم يتمالك والدي نفسه وبدأ بالبكاء: “توفي والدي ولم أره، تسع سنوات لم أرى أمي” ، الشرطي: ” دي أوامر يا باشا”. جاء موكب مفاجئ في هذه المنطقة واضطر الأمن المصري لتفريق المسافرين حتى يستطيع الموكب المرور، أسلوب التفريق كان بالهروات! شككنا حينها إن كنا بشراً، وقعت أنا وكثير من الأطفال على الأرض، أذكر بكاءهم وعيني أمهم الممتلئة بالدموع، كانت وحيدة لا يعولهم سواها. كل ذلك لأجل دخول لا يأخذ 5 دقائق مشياً! سُمح بفتح المعبر لساعتين فقط! ودخلنا بحمدالله، بعد ذل ما عشنا، وتركنا خلفنا آلافاً من المسافرين عالقين.
أما في الخروج من القطاع فالمعاناة أشد وأقسى، إذ تشدد السلطات المصرية على من يخرج لأراضيها حتى وإن كان مجرد عبور، انتظرنا في الصالة الفلسطينية من ساعات الفجر الأولى لما قبل العصر ، ثم سمح لأول ثلاث حافلات بالعبور، أما نحن أصحاب الحافلة رقم 14 ، تم إرجاعنا، علماً أن الحافلة الأولى كانت برقم5، أي أن الشهر الماضي سمحت السلطات المصرية ل4 حافلات فقط! رغم أن ساعات عمل المعبر من 9 صباحاً- 5 مساءً ، والمسافة التي تفصلنا بضعة أمتار نرى حدود المعبر بأعيننا أي أن الحافلة رقم 50 تستطيع الدخول من اليوم الأول إن سهلت الإجراءات! ثلاثة أيام على التوالي وهذه الحادثة تتكرر، نذهب ويتم إرجاعنا والمشكلة تكمن في ارتباط والدي بالعمل وتذاكر السفر التي تذهب هباءً مع كل مرة!
سمح أخيراً لنا في اليوم الثالث بالعبور ، وكنا آخر حافلة تنجو وتعبر، فالمعبر مغلق للشهر القادم. وتتأخر إجراءات كل حافلة، ولأننا الحافلة الأخيرة قدر لنا أن نكون من العالقين ، إذ جاءت ساعات المغرب ونحن لازلنا على حدود القطاع بانتظار فتح الجهة المصرية للبوابة، كان شهر رمضان حينها ولم يفطر أحد منا رغم رخصة السفر لأننا نعلم تماماً أن الأوضاع أصعب من أن يفكر أحدنا بالطعام. لا أنسى خدمة الأمن الفلسطيني، إذ قدموا وجبات خيرية وقت الإفطار، وطمأنونا بأنهم يحاولون مع الجهات المصرية لإدخالنا، صلينا بالعراء ثم بقينا نحن النساء والأطفال بالحافلة رغم ارتفاع درجات الحرارة فيها، انتظاراً للفرج وعلقنا كل آمالنا بالله سبحانه القائل {ادعوني أستجب لكم}. وجاء الفرج بعد منتصف الليل، إذ سمحت السلطات بعبور حافلتنا.
ومن لحظة دخولك للأراضي المصرية تبدأ معاناة أخرى، ننتظر في الصالة المصرية لحين ختم جوازاتنا، ويحكم العمل مزاج الأمن! فتارة تتعطل الحواسيب كما يقولون، وتارة هذا وقت سحور! يتهادى لمسامعنا صوت أذان الفجر ، ولازلنا كما نحن ننتظر أن ينادى على أسمائنا ومع ساعات الصباح الأولى أخيراً خرجت جوازاتنا وهنا ننتقل لحافلات الترحيل، التي يقودها الأمن المصري، وتنقلك من المعبر إلى مطار القاهرة، ثم تحتجر في غرفة الترحيل، هي أشبه بسجن يضمك وعائلتك وعشرات العوائل! ترى العراة من أهل الكفر بجوارك يرحب بهم، ويعاملون وكأن الأرض لم تنجب غيرهم، وأنت أخو الاسلام، يلقى بك في غرفة الترحيل كمجرم، ويقف صاحب البدلة البيضاء مغلقاً باب الغرفة، منتظراً الأوامر بالإفراج عن “الارهابيين”!
التحرير:
تقبل الله زيتونة فلسطين وزوجها وأطفالها وأسكنهم في عليين
Source link