“إنَّ المياهَ في الشرق الأوسط قد تحوَّلت بالفِعل إلى سِلعة إستراتيجية تفوق في أهميتها كلاًّ من النفط أو الغذاء أو السِّلاح..”
إنَّ المياهَ في الشرق الأوسط قد تحوَّلت بالفِعل إلى سِلعة إستراتيجية تفوق في أهميتها كلاًّ من النفط أو الغذاء أو السِّلاح، فوطننا العربي – الواقعُ أغلبه داخلَ حزام الجفاف العالَمي، ويُمثِّل 10% من مساحة اليابِسة – لا يتجاوز نصيبُه مِن المياه 0.7% مِن إجمالي الموارد المائية المتجدِّدة في العالَم.
إنَّ الثروة المائية لدولة واحِدة مِثل فرنسا تعادِل كلَّ كميَّات المياه في كل البلدان العربية، وقد انعكَس هذا على متوسط نصيب الفَرْد العربي من المياه سنويًّا، فبلغتْ حصة الفرْد 13.4% من المعدَّل العالمي لنصيبِ الفرْد مِن المياه.
ويشير المؤلِّف إلى أنَّ كلاًّ من اليمن والسودان ينخفِض فيهما كثيرًا نصيبُ الفرد مِن المياه عن حدِّ الأمان المائي (1000م3/ سنة)، ومع ذلك فلا تُوجَد معاناةٌ حقيقية من نقْص المياه لديهما، بمعنى أنَّ مواطنيهما لديهم ما يكفيهم للزِّراعة والصِّناعة والشرب، والسبب هو اعتماد الزِّراعة فيهما على مياه الأمطار، ومعلوم أنَّ الزراعة تستهلك وحدَها ما بين 50-75% من إجمالي الاستخدامات المائيَّة.
ويؤكِّد المؤلِّف أنَّ موارد المياه في الوطَن العربي شحيحة، وقد حلَّ علينا ضيفٌ شرس يُجيد التخطيط والتنفيذ للاستيلاء على الماء قبلَ الأرْض، فمنذ هزيمة 1967 وإسرائيل تبسُط سيطرتها على المياه العربيَّة في الجولان السوريَّة، ونهر الأردن، والليطاني بلبنان، وعلى المياه الجوفيَّة في الضفَّة الغربية وغزَّة، بل وتسعَى للضغط؛ مِن أجل وصول فرع نهر النيل إلى صحرائها بالنقب!
حوض نهر النيل:
يبلُغ متوسط الإيراد السَّنوي لنهر النيل 84 مليار متر مكعب، يفقد منها في بُحيرة ناصر حوالي عشرة مليارات متر مكعب نتيجةَ البخر، وتقسم المياه المتبقية 74 مليار متر مكعَّب بيْن مصر والسودان، فتحصُل مصر على 55.5 مليار متر مكعب، وتحصُل السودان على 18.5 مليار متر مكعَّب من المياه.
ويذكُر المؤلِّف أنَّ دول حوض النيل تعيش في حالة توتُّر نتيجة عدم تناسُق المواقف وتباين المصالح، فمصر تَعتبر النيلَ هو مصدر الحياة لأبنائها، وتسعى للتمسُّك بالحقوق المكتسَبة لديها من مياهه، وتعمل جاهدةً للحصول على موارد مائيَّة جديدة بعدَ إقامة مشروعات جديدة على النيل مع دول الحوض؛ حتى تستطيعَ أن تواكب زيادةَ عددِ السكَّان لديها وزيادة احتياجاتها المائية.
أمَّا إثيوبيا، فهي تسعَى بين الحين والآخر بالتصريح بأنَّها تملك مياهَ النيل التي تنبع مِن أراضيها، وأنَّ مِن حقها إقامةَ أي مشاريع تراها مناسبة، حتى لو وصَل الأمر إلى قطْع المياه عن الدول الأخرى، أمَّا باقي دول الحوض باستثناء أوغندا، فقدْ تكون بعيدةً نوعًا ما عنِ الصراع حولَ المياه.
ولا شكَّ في أنَّ الصِّراع ينحصر في المرحلة الحالية بيْن مصر وإثيوبيا والسودان، والاحتمالات المتوقَّعة للنِّزاع بيْن دول الحوض هي حتمًا تسير نحوَ التسوية، وليس إلى الصِّراع، لكن التدخلات الخارجيَّة الإسرائيليَّة تحاول أن تستثمرَ الموقف، مِن خلال وضْع دِراسات لمشاريع في إثيوبيا في محاولة منها للضغْط على مصر، وإشغالها بقضيةِ المياه؛ لإبعادها عن الصراع العربي – الإسرائيلي، ووضْع مصير مصر وحياة شعْبها في يدِ إثيوبيا.
دجلة والفرات:
إنَّ المياه في منطقة نهْري دجلة والفرات (سوريا – العراق – تركيا) هي عنصرٌ مكمِّل وإضافي لعناصر التوتُّر فيها (كالمطالِب الإقليميَّة – وأوضاع الأقليات التركمانية والتركية – وأمْن الحدود، وحركات التمرُّد والانفصال)؛ بَيْد أنَّ المياه في حدِّ ذاتها لا يُمكن أن تؤدِّي – على الأرجح – إلى حروب واسعةِ النِّطاق بيْن دول هذه المنطقة.
فبالنظر إلى عِدَّة اعتبارات موضوعيَّة لن يُمكن لأيٍّ مِن سوريا أو العراق تصعيدُ أيِّ أزْمة مياه – ولعِدَّة عقود مقبلة – إلى درجة الحرْب مع تركيا، وأهم هذه الاعتبارات ما يلي:
أ- الاختلال الإستراتيجي في ميزان القُوى بين تركيا وجارتيها العربيتَين بعدَما لَحِق من دمار شديد بالقُدرات العسكريَّة والاقتصاديَّة للعِراق.
ب- حتى تنتهي سوريا مِن توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، فإنَّها سوف تظلُّ في وضْع يضطرُّها للاحتفاط بقواها العسكريَّة (فلربَّما تستخدمها يومًا ما في تحرير أراضيها المحتلَّة في الجولان)، بمعنى أنَّها لن تجازفَ بالدخول في حرْب غير ملحَّة مع تركيا بسببِ المياه على حساب هدَف أسْمى، هو استعادة الأرْض المغتصَبة منذ عام 1967م.
ت- تظلُّ تركيا – برغمِ كلِّ التغيرات والرِّياح السياسيَّة بالمنطقة – دولةَ جوار طبيعيَّة تربطها بالوطن العربي علاقاتٌ تاريخيَّة متنوِّعة، ولها مواقف إيجابيَّة إزاءَ القضايا العربية، وخاصَّة القضية الفلسطينية، والواقِع أنَّ القادة الأتراك يُدركون أنهم جزءٌ لا يتجزَّأ من الشرق بخصوصيته الثقافيَّة وطبيعته السياسيَّة والاجتماعيَّة، ومِن ثم يحرِصون دائمًا على توثيق العلاقات الإيجابيَّة مع الدول العربيَّة.
ث- بالرغم مِن أنَّ متوسط نصيب الفرْد من المياه العذْبة في سوريا يدخُل تحت خطِّ الأمان المائي، لكن ترشيد الاستهلاك مِن المياه، وأيضًا دور التكنولوجيا في التخفيض مِن المتطلَّبات المائية للزِّراعة، وفي إعادة استخدام المياه – كل هذه الأمور تدْعو إلى التفاؤل مستقبلاً بإبعادِ شبَح أيِّ حرْب عن هذه المنطقة مِن العالَم بسبب المياه في الأجَل المنظور.
ولا يعني ذلك أنَّ استمرار الوضْع الراهِن هو أمرٌ مريح أو إيجابي، فمِن مصلحة الأطراف الثلاثة، وحرصًا على مستقبلِ العلاقات العربيَّة – التركية أن يتمَّ – وبشكل ضروري – تسويةُ مشكلة المياه مِن خلال اتفاقية ثلاثية، لا سيَّما أنَّ مشروعات المياه التركية تؤثِّر بصورةٍ سلبية على الرَّيِّ والطاقة والحياة في كلٍّ من سوريا والعراق.
نهر الأردن:
يضمُّ حوض نهر الأردن دولاً أرْبعًا، هي: الأردن وإسرائيل، ولبنان وسوريا، إضافةً إلى مناطق الحُكم الذاتي الفلسطينيَّة، وهو بحقٍّ مسرح لأهم البُؤر المشتعلة للصِّراع العربي – الإسرائيلي حولَ المياه.
فقدْ جاءت حرْب الأيَّام الستة عام 1967 لتضع نهايةً للمشروعات العربية لاستثمار مياه نهْر الأردن؛ لتصبح مياه الأردن وروافده تحتَ السيطرة الإسرائيلية وفي حَوْزتها، كما أتاح احتلال إسرائيل لهضبة الجولان سيطرتَها الكاملة على رافدين مِن روافد نهر الأرْدن، هما: الدان وبانياس، اللذان يوفِّران ثُلث إيراد مياه الأردن، كما يستغلُّ الكيان الصِّهْيوني المواردَ المائية الأخرى بالجولان، والتي تُقدَّر بحوالي 200 مليون متر مكعب سنويًّا، ومن جهة أخرى فإنَّ الجولان توفِّر لإسرائيل حمايةَ بُحيرة طبرية، والتي تستمدُّ منها رُبع استخداماتها من المياه.
هذه السيطرة المائية الصِّهيونيَّة حرَمت الأردن مِن مصدر كانتْ في أشد الحاجة إليه، وجعلتْ وضعها المائي حرِجًا للغاية، فالعجز في الموارد المتاحة للأردن قدْ بلغ 25% مِن إجمالي احتياجاتها، في الوقْت نفْسه يزداد سكَّانها بمعدَّل 3.4% سنويًّا دون أن تتوافَق هذه الزِّيادة مع تأمين المساحات المرويَّة اللازمة لتحقيقِ الاكتفاء الغذائي الضروري.
إنَّ إجمالي ما تسحَبه إسرائيلُ مِن المياه من المناطق التي تحتلُّها وتسيطر عليها يَزيد عن احتياجاتها الفعليَّة، حيث تُشير بعض التقديرات إلى أنَّ إسرائيل تتلقَّى داخلَ حدودها حوالي 1.650 مليار متر مكعب سنويًّا مِن المياه المتجدِّدة، لكنَّها تحصل بالفِعل على حوالي 1.950 مليار م3، وتستهلك منها 1.830 مليار م3، ممَّا يعني أنَّها تحتفظ بمياهها كمخزون إستراتيجي تحسُّبًا للظروف الطبيعيَّة أو ربَّما العسكريَّة.
ويؤكِّد المؤلِّف على أنَّ الحديث عنِ السلام هو حديثٌ عن المياه قبل الأرْض، ولا يُمكن لإسرائيل أن تَقبل باتِّفاق سلام لا يجعَل مياه المنطقة مشاعًا بيْن دولها، وهي دعوةٌ تتخذ مِن السلام ستارًا لها، ففي ضوءِ ميزان القُوَى المختل عربيًّا، والمائل لصالح إسرائيل، لن يَعني السلام سوى أن تتحكَّم إسرائيلُ في المنطقة مائيًّا ثم اقتصاديًّا، كما سبَق وأن أحْكمتْ قبضتها عليها عسكريًّا.
______________________________________________________
الكاتب: أحمد حسين الشيمي
عرض كتاب
مشكلة المياه في الوطن العربي.. احتمالات الصراع والتسوية
Source link