إياك أخي المسلم أن يحملك استبطاء الرزق، أو قِلَّتُه، على أن تطلبه بمعصية الله، فتسلك مسالك الحرام في تحصيله؛ فتُفسد دينك ودنياك وأخراك
إن همَّ الرزق قد أكل قلوبًا، وأشغل عقولًا، ففي بعض الناس هَلَعٌ وجزع حينما يسمع بالتغيرات الاقتصادية، والتقلبات المالية، والمشكلات في أمور المعاش، وكأنهم لا يعلمون أن الله عزَّ شأنه قد تكفَّل بالرزق لجميع خلقه؛ إنسهم وجنِّهم، مؤمنهم وكافرهم، قويِّهم وضعيفهم، كبيرهم وصغيرهم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60].
وإننا حين نستعرض قضية الرزق والسعي في تحصيله، لا بد أن نتذكر أمورًا غاية في الأهمية:
أولًا:
الرزق ليس هو المال فقط؛ فالكثير من الناس ينظرون إلى الرزق نظرة ضيقة قاصرة، فهم يتصورون أنه المال فحسب، وهذا فهم ضعيف قاصر محدود.
فالإيمان رزق، والقرآن رزق، وحب النبي صلى الله عليه وسلم رزق، وحب الصحابة رزق، والعلم رزق، والخُلُق رزق، والزوجة الصالحة رزق، والحب في الله رزق، والولد الصالح رزق، والمسكن رزق، والمركب رزق، وصيامك النهار رزق، وقيامك الليل رزق… والرزاق بكل هذه الأرزاق وغيرها هو الله الكريم الوهاب.
ثانيًا: إن كُرْهَ الفقر وحبَّ الغنى أمران فطريان:
والشريعة الغرَّاء لا تقف في وجه الفطرة أبدًا، ولكنها في ذات الوقت تحث على الاعتدال والتوازن في كل شيء حتى في المال.
فالإسلام لم يحث على الفقر؛ لأن الفقر كاد أن يكون كفرًا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الكفر والفقر.
ولكن الشرع في ذات الوقت ينهى المسلم عن الركض الأعمى وراء المال، وطلب الغِنى، وأن تصبح الدنيا هي الْمُنْيَةَ، والسعي في تحصيلها هو الغاية، فينشغل بما ضمنه الله له، عما خلقه الله له؛ وهو عبادته؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومن كان هذا حاله، أفْسَدَ دينه ودنياه؛ {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غِناه في قلبه، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغمة»؛ (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني)، فهو في الدنيا تائه ضالٌّ، وفي الآخرة معذَّب خاسر: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة: 1 – 4].
ثالثًا: أن الله تعالى قد تكفَّل بأرزاق الخلائق وضمِنها لهم:
فالرزق يطلب العبدَ أكثر مما يطلبه العبدُ؛ قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60].
فرزقك – أخي الكريم – قد ضمِنه الله لك؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن روح القُدُس نفث في رُوعي؛ أنَّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب»؛ (رواه أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني).
والله لو قنعت نفسي بما رُزقــــت *** من المعيشة إلا كان يكفيهـــــــا
والله والله أيمان مكـــــــــــــــررة *** ثلاثة عن يمين بعد ثانيهــــــــــا
لو أن في صخرة صَمَّا مُلَمْلمـــــــة *** في البحر راسية مُلْسٌ نواحيهـا
رزقًا لعبد بَرَاها الله لانفلقـــــــــت *** حتى تؤدي إليه كل ما فيهـــــــا
أو كان فوق طباق السبع مسلكهـا *** لسهَّل الله في المرقى مراقيهـــا
حتى ينال الذي في اللوح خُطَّ له *** فإن أتته وإلا سوف يأتيهـــــــــا
أموالنا لذوي الميراث نجمعهــــــا *** ودارنا لخراب البوم نبنيهــــــــــا
لا دار للمرء بعد الموت يسكنهــــا *** إلا التي كان قبل الموت يبنيهـــا
فمن بناها بخير طاب مسكنــــــه *** ومن بناها بشرٍّ خاب بانيهـــــــــا
ثالثًا: الرزق مضمون، والسعي مطلوب:
فليس معنى أن الرزق مضمون ألَّا يسعى العبد في تحصيله، وأن ينام في بيته منتظرًا أن يأتيه إلى بابه، هذا فهم بليد، وعقل غير رشيد، وقد ذكروا للإمام أحمد أن رجلًا يقول: إنه يجلس في بيته أو مسجده حتى يأتيه رزقه، فقال: “هذا رجل جاهل بالعلم”.
وقد ذُكِرَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: “إن السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضة”، وقال ربنا سبحانه: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [الملك: 15]، وقال تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
فالمطلوب حسن التوكل على الرب تعالى مع السعي؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حقَّ توكله، لرُزِقْتُم كما يُرزق الطير، تغدو خِماصًا، وتروح بطانًا»؛ (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني).
فعلى العبد السعي في الطلب، والأخذ بالسبب، والتعلق بالمسبب، والتوكل على الرزاق سبحانه وتعالى؛ ويقول كما قال الشافعي:
توكلت في رزقي على الله خالقي *** وأيقنت أن الله لا شكَّ رازقــــي
وما كان من رزقي فليس يفوتني *** وإن كان في قاع البحار العوامقِ
سيأتي به الله العظيم بمنِّـــــــــه *** ولو لم يكن مني اللسان بناطـــقِ
رابعًا: الغِنى والفقر ابتلاء:
وقد أكَّد الله ذلك في كتابه؛ فقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 15 – 17]، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وقال سيدنا سليمان لما أعطاه الله ما أعطاه من الملك والغِنى: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40].
فإذا ابتلاك الله فضيَّق عليك، فاصبر وارضَ، وإذا أنعم الله عليك فاشكر وأدِّ حقَّ الله عليك في مالك.
خامسًا: السعادة ليست في المال فقط:
فكم من غنيٍّ يملك من المال ما لا يُعَدُّ، والدنيا كلها في يديه، وهو من أشقى الناس؛ إما لبخله، فهو بخيل شحيح، فقير في صورة غني، يتمنى كل من حوله وفاتَه، وإما لمرضه، فهو ممنوع من أكل أكثر الأصناف، محروم من فعل كثير من الأشياء، فلا تحسُدنَّ أحدًا على رزق وهبه الله إياه، فإنك لا تدري ما مُنِعَ منه.
ثم قد يكون الفقر نعمة والغِنى نقمة، خصوصًا في أمر الآخرة؛ قال ابن مسعود: “ما من يوم إلا وينادي مَلَكٌ من تحت العرش: يا بن آدم، قليل يكفيك خير من غِنًى يطغيك”.
سادسًا: إياك والحرامَ:
إياك أخي المسلم أن يحملك استبطاء الرزق، أو قِلَّتُه، على أن تطلبه بمعصية الله، فتسلك مسالك الحرام في تحصيله؛ فتُفسد دينك ودنياك وأخراك؛ قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله وأجْمِلوا في الطلب، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته»؛ (رواه أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني).
فتنبَّه – حفظك الله – فالكسب الحرام يُورِث غضب الجبار، ويُدخِل صاحبه النار؛ كما في حديث كعب بن عجرة قال له صلى الله عليه وسلم: «يا كعبُ، إنه لن يربوَ لحمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ، إلا كانت النار أولى به»؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
والسُّحْتُ: كل مال اكتُسب من حرام.
وكَسْبُ الحرام وبالٌ على الفرد، سواء كان من رِبًا أو رُشوة، أو ظلم أو غش، أو أكل لأموال الناس بالباطل.
فالمال الحرام مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، إن أنفقه صاحبه في برٍّ لم يُقبَل، وإن بذله في نفع لم يُشكَر، بل هو شؤم على صاحبه، وضرر على جامعه في كل حال؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( «لا يكسب عبدٌ مالًا من حرام، فينفق منه، فيبارَك له فيه، ولا يتصدق به فيُقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده إلى النار»؛ (رواه أحمد).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
______________________________________________________________
المراجع:
1- مقال: “قواعد عامة في قضية الرزق” لموقع إسلام ويب، على الرابط التالي:
https://2u.pw/6V1ztFkw
2- خطبة “الأسباب الجالبة للرزق” لابن حميد، على الرابط التالي:
https://2u.pw/Oozc3KOT
___________________________________________________
الكاتب: د. خالد بن حسن المالكي
Source link