الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اختلف الفقهاء في عورة المرأة بالنسبة للمرأة المسلمة، وحكم نظر كل منهما للأخرى على قولين:
الأول: مذهبُ جمهورِ الفُقهاء: أن عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة المسلمة، كعورة الرجل إلى الرجل، وهي بين السرة والركبة؛ كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: (ما بين السرة والركبة عور)؛ رواه أحمد أبو داود وهذا القول هو الراجح عند الحنفية، وهو قول المالكية – في المشهور – والشافعيةِ في – المعتمد – والحنابلةِ؛ واحتجوا بما رواه مسلمٌ عن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قال: (لا ينظرُ الرجلُ إلى عورةِ الرجل، ولا المرأةُ إلى عورةِ المرأة، ولا يُفضِي الرجلُ إلى الرجلِ في ثوبٍ واحد، ولا تُفضِي المرأةُ إلى المرأةِ في الثوبِ الواحد)، فنهى صلى الله عليه وسلم ألا يضطجعان متجردين تحت ثوب واحد، ولما بين رسول الله أن عورة الرجل بالنسبة للرجل، بين السرة والركبة، فيقاس نَظَر المرأةِ لعورة المرأة عَلَى نَظَر الرجلِ إلى الرجلِ؛ بجامعِ اتِّحاد الجنس، ولأمن الفتنة، ولأن اتحاد الجنس يوجب عدمِ الخوف من الشهوة، لأن عندها ما عند أختها.
أما مذهب الحنفية، فجاء في “بدائع الصنائع” (6/2961): “… فَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى سَائِرِ جَسَدِهَا، إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ خَوْفُ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ؛ كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ، حَتَّى لَوْ خَافَتْ ذَلِكَ تَجْتَنِبُ عَنْ النَّظَرِ كَمَا فِي الرَّجُلِ، وَلا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى الرُّكْبَةِ، إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ بِأَنْ كَانَتْ قَابِلَةً، فَلا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْوِلادَةِ”؛ ومثله في تبيين الحقائق: (6 / 18)، والمبسوط: (10 / 147).
وجاء في “مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج” (3 / 130)في فقه الشافعية: “(والمرأة مع امرأة كرجل ورجل)؛ الشرح:
(والمرأة) البالغة؛ حكمها (مع امرأةٍ) مثلِها في النظر؛ (كرجل)؛ أي: كنظر رجلٍ (ورجل) فيما سبق، فيجوز مع الأمن، ما عدا ما بين السرة والركبة، ويحرم مع الشهوة، وخوف الفتنة”. اهـ.
وجاء في “المغني” (7 / 105) -الحنبلي-: “وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ، حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ سَوَاءٌ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَتَيْنِ, وَبَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ،كَمَا لا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ, وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ, فِي النَّظَرِ”. اهـ.
وقال المرداوي في “الإنصاف” (8/24):
“قوله: (وللمرأة مع المرأة, والرجلِ مع الرجل؛ النظرُ إلى ما عدا ما بين السرة والركبة)؛ يجوز للمرأة المسلمة النظرُ من المرأة المسلمة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة؛ جزم به في “الهداية”, و”المذهب”, و”المستوعب”, و”الخلاصة”, والمصنف – هنا – وصاحب “الرعاية الصغرى”, و”الحاوي الصغير”, و”الوجيز”, و”شرح ابن منجا”, وغيرهم، وقدمه في “الرعاية الكبرى”؛ والصحيح من المذهب: أنها لا تنظرُ منها إلا إلى غير العورة، وجزم به في “المحرر”, و”النظم”, و”الفروع”, و”الفائق”, و”المنور”، ولعل من قطع – أولًا – أراد هذا، لكنَّ صاحب “الرعاية” غاير بين القولين؛ وهو الظاهر”. اهـ.
أما القولُ الثاني: وهو أن المرأة المسلمة يَحِلُّ لها أن تنظرَ من المرأة إلى ما يَحِلُّ للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه؛ فلا يُباح له النظرُ إلى ظهرِها، وبطنِها، وإنما تنظُر “إلَى الْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ، وَالصَّدْرِ، وَالسَّاقَيْنِ، وَالْعَضُدَيْنِ، وَلا يَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا، وَبَطْنِهَا، وَفَخِذِهَا … وَالْمُرَادُ – وَاَللهُ أَعْلَمُ – مَوَاضِعُ الزِّينَةِ؛ وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ, وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ السَّاعِدُ، وَالأُذُنُ، وَالْعُنُقُ، وَالْقَدَمُ; لأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ, بِخِلافِ الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ، وَالْفَخِذِ; لأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ”؛ كما في “الهداية” مع تكملة “فتح القدير” (8/103، 104)؛ وهذا القولُ روايةٌ عن أبي حنيفة، وقولٌ مرجوحٌ عند الحنفية.
واستدل بما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنها ستُفتَح لكم أرضُ العَجَم، وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات؛ فلا يدخلنَّها الرجالُ، إلَّا بالأُزُرِ، وامنعوها النساء، إلَّا مريضةً أو نُفَساء)).
جاء في “المبسوط” (10/ 147) للسرخسي الحنفي: “وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، حَتَّى لا يُبَاحَ لَهَا النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا، وَبَطْنِهَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله تعالى عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – نَهَى النِّسَاءَ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ بِمِئْزَرٍ، وَبِغَيْرِ مِئْزَرٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ – رضي الله عنهما – يَقُولُ: امْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ، وَلْتَدْخُلْ مُسْتَتِرَةً، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ: مَنْعُ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَبِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ، وَبِهِ نَقُولُ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ بِبِنَاءِ الْحَمَّامَاتِ لِلنِّسَاءِ، وَتَمْكِينِهِنَّ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا، وَحَاجَةُ النِّسَاءِ إلَى دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ فَوْقَ حَاجَةِ الرِّجَالِ؛ لأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الزِّينَةِ، وَالْمَرْأَةُ إلَى هَذَا أَحْوَجُ مِنْ الرَّجُلِ، وَيَتَمَكَّنُ الرَّجُلُ مِنْ الاغْتِسَالِ فِي الأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ، وَالْمَرْأَةُ لا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ”. اهـ.
وقال في “تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق” (6 / 18):
“وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ – رحمه الله – أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ؛ فَلا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ – فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ – بِخِلافِ نَظَرِهَا إلَى الرَّجُلِ; لأَنَّ الرِّجَالَ يَحْتَاجُونَ إلَى زِيَادَةِ الانْكِشَافِ, وَفِي الرِّوَايَةِ الأُولَى يَجُوزُ؛ وَهِيَ الأَصَحُّ , وَمَا جَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ، جَازَ مَسُّهُ; لأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ, وَلا يُخَافُ مِنْهُ الْفِتْنَةُ”. اهـ.
والقول الأول هو الصحيح من جهة الدليل ومن جهة النظر، وعلى كلا القولين فلا يجوزُ للمرأة النظرُ إلى فخذ امرأة أخرى، وقياس فخذ المرأة على فخذ الرجل فيه نظر؛ لأن الراجح هو عورة فخذ الرجل، ولأن الدليل الوارد في إباحة كشف فخذ الرجل، معارض بما يقدم عليه مما يدل على أن فخذ الرجل من عورته، وهو قول جماهير الفقهاء؛ ولهذا قال الإمام البخاري: “حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط”،، والله أعلم
Source link