حلتنا اليوم على خُطى الخليل عليه السلام، ابنًا وأبًا، في رحلة البر.
نعود إلى أرض بابل مع إبراهيم عليه السلام وهو بين قومه الذين استشرى فيهم الشركُ، واستفحلت فيهم الوثنية، فعبدوا الأصنام، وسجدوا للشجر والشمس والقمر، فقيَّض الله لهم نبيه إبراهيمَ عليه السلام داعيًا إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وناهيًا عن الشرك واتخاذ الأنداد.
لقد كان أول المعارضين لدعوة إبراهيم عليه السلام هو أبوه (آزر)، مشكِّلًا بذلك عقبةً أولى على طريق تحقيق الرسالة، رافضًا الانصياع لأمر الله وما جاء به نبيه (ابنه)، فكان تعامل إبراهيم عليه السلام مع أبيه أن عامله بكل برٍّ وإحسان، وتجلَّى ذلك في مواطن ذكر القرآن فيها قصته مع أبيه؛ حيث بيَّن إبراهيم عليه السلام لأبيه بألطف العبارات وأحسنها، بطلان عقيدته القائمة على عبادة الأصنام وصناعتها وبيعها، مبينًا له أنها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تغني عنه شيئًا؛ فقال لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] ثم تلطَّف في النداء وناشده أن يَتْبَعَه كي يهديه إلى الصراط السويِّ، فقد آتاه الله علمًا آخر، علمًا تتفتح أمامه الآفاق، وتتحرك به البصائر، وتنشرح له القلوب؛ فقال لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43].
ثم حذَّره تحذيرًا شديدًا من الشيطان ووساوسه، فهو سرُّ المصائب والشرور في هذه الدنيا، حذَّره من هذا العدوِّ المبين الذي عصى ربه من قبل؛ فقال لأبيه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44، 45]، فلم يتقبل (آزر) كلام ابنه الناصح المشفق، وأصر على كِبرِهِ وتمادى في ضلاله، وأخذ يهدده ويتوعده ويقول: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].
لما رأى إبراهيم عليه السلام ذلك الإعراض من أبيه؛ قال له: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]؛ أي: سلام عليك لا يصلك مني مكروه، ولا ينالك مني أذًى، أنت سالم من ناحيتي، وزاده خيرًا فوعده بالاستغفار له عند ربه.
إن التمعُّن في الآيات السابقة، وذلك الحوار، وفي مواضع أخرى حكى فيها الحق سبحانه وتعالى عن إبراهيم ودعوته، يوضح نموذجًا ساميًا، وأسلوبًا راقيًا في البر والإحسان للوالدين، رغم أن أباه قد عارض دعوته، ورغم أن الخلاف خلافُ دينٍ وعقيدة، وهو مما لا تهاوُنَ فيه عند الأنبياء والرسل عليهم السلام، لقد تمثَّل بِرُّ إبراهيم بأبيه أنموذجًا نبويًّا ساميًا للبر والإحسان بالآباء، حتى وإن كانوا على خلاف، وذلك البر كافأه الله ببر ذريته من بعده، فهذا إبراهيم يدعو الله أن يرزقه الذرية الصالحة فيستجيب الله دعاء إبراهيم عليه السلام ويبشِّره بغلام حليم، والحِلْمُ هو العقل والأناة، والتبصُّر والرَّزانة والصبر.
وقد أتى هذا الغلام على كِبَرٍ من سنِّ والده، وأتى ووالده في لهفة للولد، وأتى بِكْرَ والده، وكان وحيدًا، وكان أمل والده فيه ومستقبله كبيرًا، خصوصًا أن الله منحه عقلًا وذكاءً ونجابة، ومن أجل ذلك كان قرةَ عين والديه، وكان حبُّهما له كبيرًا.
أخذ إسماعيل عليه السلام يشبُّ ويترعرع حتى بلغ السن التي يتمكن فيها من السعي والعمل، وبلغ أيضًا من حب والديه مبلغًا عظيمًا، وكان الحب يزداد مع الأيام ويكبُر على مر السنين، وإذا بوالده يرى ما يراه النائم أنه يذبح ابنه، وكان الوالد يعلم أنها إشارة له بذبح ابنه، إشارة من نوع الابتلاء، فأي نفس تُطيق هذا البلاء؟ وأي قلب يقوى على هذا العناء؟!
يقص الأب على ابنه رؤياه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، وهنا يظهر البر؛ فيقول إسماعيل طائعًا لربه وملبيًا، صابرًا ومؤديًا، منقادًا وراضيًا: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، طاوعه الابن الصالح بالتمكين، وكان لأبيه خير معين، فلما أمرَّ على حلقه بالسكين، ناداه أرحم الراحمين: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 104 – 106]، وفداه ربه بذبح عظيم، وخلصه بكبش لحيم؛ ليعلم أن البلاء ليس للتعذيب، ولكنه للتمحيص والتهذيب.
والحكمة في ذلك كما يقول الإمام ابن قيم الجوزية أن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن يُولَد بعده، وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله سبحانه وتعالى قد اتخذه خليلًا، والخلة هي كمال المحبة، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وألَّا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، أحب الله سبحانه لخليله أن يكون له قلبه، فأمره سبحانه بذبح هذا الذي أخذ حُبُّه شُعبةً من قلبه، وذلك ليخلص له كاملًا.
___________________________________________________
الكاتب: عبدالسلام بن محمد الرويحي
Source link