اِقتضت حكمة العليم الخبير أن يستخلف بني آدم في الأرض لوقت معلوم بقدرمحتوم، فجعل لهم الزمن يعمل فيهم وهم فيه يعملون ثم إنهم بعد ذلك لميتون ثم يُلاقوا يومهم الذي يُوعدون، فتُجزى كل نفس بما عَمِلَت ثم هم من بعد ذلك خالدون.
فجعل لهم أيامًا وليالي وقسَّمها لهم أوقاتًا بُنيت عليها الحاجات من كسب ونوم وطعام ورُتِّبت عليها العبادات كالصلاة والصيام، حتى إنه لا يصح عمل أحدهما في الآخر.
فلا يُصام الليل ولا يُقام النهار، ناهيك عمَّا افترضه عليهم من عبادات موقوتة لا تصح في غير وقتها كالصلاة والحج {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189].
{هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} قال أبو جعفر: “يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ فقلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حَلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عِدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس”.
المواقيت: جمع ميقات والميقات من الوقت والوقت هو الزمن وكل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، إذن فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فلا يوجد زمان ولا مكان إلا إذا وُجِدَ حدث، كما أن الزمان والمكان مقترنان يمثلان الوجود الذي يمكن إدراكه أو تصوره في هذا الكون حيث دلت الدراسات أن عالمنا الأرض و كل ما حولنا من نجوم وأفلاك ومجرات في حركةٍ دائبة مِصداقًا لقوله تعالى {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
ونتيجة لذلك؛ فإن تحديد الزمان مرتبط بالمكان وكذلك تحديد المكان مرتبط بالزمان، ويظهر ذلك جليًا في الشمس حيث تبزغ في أقصى الشرق ويُسمَّى الوقت شروقًا ثم تسير باتجاه الغرب حتى تضمحل. ويُسمَّى ذلك الوقت غروبًا وبينهما الضحى والزوال والعصر وكلها أوقات يدلنا عليها مكان الشمس في قبة السماء وهذا ما أثبته العلم فإضافة إلى الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والارتفاع يأتي بعد رابع وهو الزمن حتى يمكن الحكم بوجود الشيء بالفعل.
وحيث أنّا وكل ما حولنا في حركة مستمرة من المجرات والأفلاك وصولًا إلى الإلكترونات والبروتونات حول نواة الذرة؛ فإن عامل الوقت هو الحسم في وجود الشيء في ذلك المكان من عدمه وقد لفت القرآن الكريم الأنظار إلى ذلك في قوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75].
قال بعض أهل التأويل: “فلا أقسم بمنازل النجوم”.
وقد دلت الدراسات أن بعض النجوم قد فنيت منذ آماد بعيدة، وأنَّا لا نرى إلا مكانها من خلال ضوئها الذي وصلنا توًا وهذا يدل على أن الزمان يختلف باختلاف المكان وأن لكل مكان زمنه الخاص به، وأقرب مثال اختلاف التوقيت بين شرق الأرض وغربها فحين يكون نهارًا في شرق الأرض يكون ليلًا في الغرب والعكس بالعكس. ومعنى هذا أن الزمن هو تكييف للوجود في مكان معين خاص به لا يتعداه إلى غيره من الأماكن، وهو حادث أي مخلوق جعله الله عز وجل لحكمة الاستخلاف في الأرض يزول بزوال سببه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والجنة ليس فيها شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار لكن تعرف البُكرة والعشية بنور يظهر من قبل العرش”.
فالزمن وُجِد للحادث ويعرف الوقت بأنه مقدار من الزمن لمقدار من الحركة، ولمقدار من الفعل كما أن الزمان يتحكم أحيانًا في المكان، فنقول الزمان هو الأصل، والمكان طارئ عليه، ومرة يكون المكان هو الأصل والزمان طارئ عليه ومرة يتلازم الزمان والمكان.
فالإنسان إذا أراد الحج فإنه يبدأ بالإحرام من الميقات أي المكان حال وصوله إليه سواء كان الوقت صباحًا أو مساءًا. وأما في الصوم فإن الزمن يصبح هو الأصل ففي أي مكان تذهب إليه، فإن الزمان هو الذي يُحدِّد مواعيد الصوم وهكذا يكون الزمن ميقاتًا، ومرة يتحكم الزمان والمكان معًا في الفعل مثل يوم عرفة.
وهكذا نعرف معنى {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} فنحن بالهلال نعرف بِدء شهر رمضان، وعيد الفطر، وموسم الحج وعدة المرأة، والأشهر الحُرم. والشمس تدلنا على اليوم فقط، وإن كان لها عمل آخر في البروج يتعلق بحالة الطقس والجو والزراعة.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس من الآية:5].
إذن؛ فعدد السنين وحسابها يأتي من القمر، وفي زماننا إذا أرادوا أن يضبطوا المعايير الزمنية فهم يقيمونها بحساب القمر فقد وجدوا أن الحساب بالقمر أدق من الحساب بالشمس فالحساب بالشمس يختل يومًا كل عدد من السنين.
والفرق بين منازل القمر وبروج الشمس أن منازل القمر (الأنواء) تعبير يُطلق على البروج التي يقع فيها القمر بالنسبة إلى الناظر إليه من سطح الأرض وهي 28 منزلًا بعدد الليالي التي يُرى فيها القمر، ويستتر القمر ليلة 29 إذا كان الشهر ناقصًا أو ليلة 30 إذا كان تامًا، وتُحسب السنة القمرية إذا أتم القمر اثنا عشر دورة حول الأرض وتتكون السنة الهجرية من 354 يومًا على اعتبار6 شهور تامة 30 يوم، و6 شهور ناقصة 29 يوم وبذلك يكون الفارق بين كل سنة والتي تليها 6 أيام وهي عدد الأيام في الشهور الناقصة وهذا ما يُفسِّر تقلب الشهور القمرية في الفصول المناخية الربيع والصيف والشتاء والخريف.
أما بروج الشمس وهي: برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والعذراء، والأسد، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وعددها اثنا عشر برجًا ويتعلق بها مواعيد الزرع والطقس والجو وهي خط وهمي يُمثِّل المجموعات النجمية التي تمرُّ خلالها الشمس في رحلتها السنوية الظاهرة حول الأرض في 365 يومًا وربع اليوم وتكون السنة الشمسية 365 يومًا وتُسمَّى سنة بسيطة ثم تكبس الأرباع وتضاف إلى السنة الرابعة وتكون 366 يومًا وتُسمَّى سنة كبيسة لكي يتناسب التقويم مع الدورة الفلكية.
ولذلك؛ تجد أن التوقيت في السنة الشمسية لا يختلف فالشهور التي تأتي في الربيع أو الصيف هي هي لا تختلف، وكذلك التي تأتي في الخريف والشتاء.
كانت العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تعظم الأشهر الحُرم، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم، ورجب؛ حتى في زمن شركهم وجاهليتهم وهذا من بقايا وحي السماء الذي توارثوه عن كل من نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام اللذان كانا يؤرخان بالقمر. ومما يؤكد ذلك أن جميع التكاليف الشرعية قد ربطها الشارع الحكيم بالأهلة.
يقول الإمام الرازي: “واعلم أن مذاهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمريَّة لا شمسيَّة، وهذا حكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فأما عند اليهود والنصارى فليس كذلك” (تفسير الرازي: [16/50]).
وكان العرب قبل الإسلام وبعده يؤرخون بأبرز الأحداث كبناء الكعبة وعام الفيل وحرب الفُجَّار حتى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حين شكا له أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه يأتينا منك الكتب ليس لها تاريخ فجمع عمر الصحابة وشاورهم فأشاروا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وبمبعثه وهجرته.
قال سعيد بن المسيب: “جمع عمر الناس فقال: من أيّ يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ: من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفِراقه أرض الشرك، ففعله عمر”. وجعلوا المحرَّم بداية السنة.
وقال ابن الجوزي: “ولم يؤرخوا بالبعث لأن في وقته خلافًا، ولا من وفاته لما في تذكره من التألم، ولا من وقت قدومه المدينة؛ وإنما جعلوه من أول المحرَّم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه إذ البيعة كانت في ذي الحجة وهي مقدمة لها وأول هلال هل بعدها المحرَّم ولأنه منصرف الناس من حجهم فناسب جعله مبتدأ”.
ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما كان في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2-1] قوله: “هو المحرَّم فجر السنة”.
وقد ذكر بعض العلماء أن في القرآن الكريم إشارة إلى ابتداء التاريخ الإسلامي بالهجرة وذلك في قوله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
ففي قوله تعالى {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} دلالة على أن ذلك اليوم ينبغي أن يكون بداية التاريخ الإسلامي.
وقال ابن القيم رحمه الله: “ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب القمر وسيره ونزوله، لا حساب الشمس وسيرها حكمة من الله ورحمة، وحفظًا للدين لاشتراك الناس في هذا الحساب، وتعذَّر الغلط والخطأ، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والخطأ ما دخل في دين أهل الكتاب”.
وقد كان بنو إسرائيل يؤرخون بالقمر قبل أن يسكنوا مصر ويتبعوا سنة أهلها بالتاريخ الشمسي.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في بيان ابتداع اليهود والنصارى للتأريخ الشمسي: “وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضًا إنما علَّقت الأحكام بالأهلة وإنما بَدَّل من بَدَّل من أتباعهم، وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب، وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار، ولهذا سمَّوه هلالًا، لأن هذه المادة تدل الظهور والبيان إما سمعًا وإما بصرًا”.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5].
“{وَقَدَّرَهُ} أي القمر، {مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فبالشمس تُعرَف الأيام، وبسير القمر تُعرَف الشهور والأعوام” (تفسير ابن كثير).
وقيل في: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} إن الإخبار عن القمر وحده؛ إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها.
وفي قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لو جعل شمسين، شمسًا بالنهار وشمسًا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور”.
“{وَالٌقمرَ قَدَّرَناهُ مَنَازِلَ} [يس:39]؛ أي على عدد الشهر، وهو ثمانية وعشرون منزلًا. ويومان للنقصان والمحاق” (تفسير القرطبي).
عن قتادة قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}؛ قال قتادة: “سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لِمَ جُعِلَت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعِدة نسائهم ومحل دينهم في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه”.
سُئِلَ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ما تفسير هذه الآية الكريمة بارك الله فيكم؟
فقال:
“هذه الآية الكريمة {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} خطاب من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يُجيب الصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الحكمة في هذه الأهلة، فبيَّن الله سبحانه وتعالى أنها مواقيت للناس ومواقيت للحج مواقيت للناس في معاملاتهم وعباداتهم وغير ذلك مما يحتاجون فيه إلى التوقيت، وكلمة الناس عامة تشمل جميع بني آدم فتحديد الشهور الذي وضعه الله تعالى لعباده إنما هو بالأهلة لأن الله قال هي مواقيت للناس وعمَّم وقال سبحانه وتعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36].
وقد اتفق العلماء على أن المراد بهذه الشهور هي الشهور الهلالية اعتمادًا على ما جاءت به السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهي مواقيت للناس في العبادات وفي المعاملات في العبادات شهر رمضان يصام، إذا رئي هلاله ويفطر منه إذا رئي هلال شوال، وفي المعتدات المتوفى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام بالأهلة، المطلقات اللاتي لا يحضن لصغر أو إياس يعتددن بثلاثة أشهر بالأهلة، الناس يؤجلون ديونهم وغير ديونهم بالأشهر بالأهلة وهكذا…
جميع ما يحتاج إلى تأجيل بالشهر يكون الاعتماد فيه على الأهلة وقوله تعالى {وَالْحَجِّ} يعني أن الحج مربوط بالهلال أيضًا؛ لأن ابتداء الحج يكون من اليوم الثامن من ذي الحجة وينتهي باليوم الثالث عشر منه وأشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كما قال تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وهذه الأشهر الهلالية منها أربعة حُرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، فذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم ثلاثة متوالية ورجب منفرد بين جمادى وشعبان والأهلة مقرونة بالقمر يبدو في الغرب صغيرًا ثم لا يزال ينمو رويدًا رويدًا إلى أن يتكامل نموه في نصف الشهر، ثم يعود إلى الاضمحلال حتى يتم، ثم يعود مرة ثانية، فيخرج من المغرب وخروجه من المغرب هو ابتداء الهلال هذا هو معنى الآية الكريمة”.
الحكمة من التأريخ بالأهلة:
1- التيسير:
– في العلم
التاريخ الهجري يتميز بأنه يعتمد على الأهلة وهي علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه، فمتى رؤي الهلال أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق، وبإلقاء نظرة على القمر يعرف الناظر هل هو في أول الشهر أو وسطه أو آخره، بينما لا يمكن ذلك في الشهر الميلادي لكونه مرتبطًا بحركة الشمس.
قال شيخ الإسلام: “الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار، ولذلك سَمَّوه هلالًا، لأن هذه المادة وهي أهل يهل هل يهلُ تدل على الظهور والبيان كما يقال: أهل بالعمرة، أهل بالذبيحة، إذا رفع صوته”.
والعرب تضرب المثل بالقمر لما وضح يقول الشاعر:
أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُور مَطِيّكُمْ *** فَإِنِّي إِلَى حَيّ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ
فَقَدْ حُمَّتْ الْحَاجَات وَاللَّيْل مُقْمِر *** وَشُدَّتْ لِطَيَّاتٍ مَطَايَا وَأَرْحُلُ
– في العمل:
من رحمة الله بعباده ودلائل الإعجاز أن كانت التكاليف الشرعية محسوبة بالقمر حتى تسيح المنازل القمرية في البروج الشمسية، فيأتي التكليف في كل جو وطقس من أجواء السنة، فالعبادات الحولية كالصوم والحج والعيدين تتقلب بين فصول السنة، وفي هذا ما فيه من الحكمة البالغة فتراوح الحج بين الصيف والشتاء فيه رحمة بالمسلمين في المناطق الباردة مثل أوروبا الذين يشق عليهم الحج في رمضاء مكة المكرمة في الصيف، فكان موسم الشتاء فرصة لهم لقضاء فريضة الحج دون عناء.
وكذلك؛ في طول الليل وقصر النهار في شهر رمضان فيسهل الصيام ويكثر القيام أو العكس، فيطول النهار ليشعر الصائم بعَظة الجوع فيتذكر نعم الله عليه وحاجة إخوانه فيكثر البذل والعطاء ويقصر الليل حتى لا يجهده طول القيام مع الصيام. وفي تنقل العيدين بين المواسم وما يكون فيهما من العادات في أنواع المآكل والمشارب والنزهات ما يزيد فرحة الأعياد.
2- الثبات:
– الحماية من التلاعب والعبث
العبث بالتقويم الميلادي (اليولياني) قديم فقد نقل يوليوس قيصر بداية السنة من شهر مارس إلى شهر يناير في (سنة 45 ق.م) وقرَّر أن يكون عدد أيام الأشهر الفردية 31 يومًا والزوجية 30 يومًا عدا فبراير 29 يومًا، وإن كانت السنة كبيسة يصبح ثلاثون يومًا، وتكريمًا ليولوس قيصر سمي شهر كونتليس (الشهر السابع) باسم يوليو وكان ذلك في (سنة 44 ق.م).
وفي (سنة 8 ق. م) غيّر شهر سكستيلس باسم القيصر الذي انتصر على أنطونيو في موقعة أكتيوم (سنة 31 ق. م)، ومن أجل مزيد من التكريم فقد زادوا يومًا في شهر أغسطس ليصبح 31 يومًا بأخذ يوم من أيام فبراير وترتب على هذا التغيير توالي ثلاثة أشهر بطول 31 يومًا (7، 8، 9) نتيجة لذلك أخذ اليوم الحادي والثلاثين من كل شهري سبتمبر ونوفمبر وأضيفا إلى شهري أكتوبر وديسمبر، وقد حدث تعديل آخر في عهد الباب (غريغور الثالث عشر) الذي قام بإجراء تعديلات على التقويم اليولياني حيث عالج الثغرات الموجود في التقويم اليولياني، وقد عُرِف هذا التقويم باسم التقويم الغريغوري وهو التقويم الذي يعمل به حاليًا التقويم الميلادي.
والناظر في هذه التغييرات بعين النقد يتبين له هزالة هذا التقويم.
– عدم الخطأ:
اعتبر التقويم اليولياني من أعظم إنجازات يوليوس قيصر الحضارية، ولقد مرَّ التقويم الشمسي بمراحل من الأخطاء الفلكية والحسابية وما زال بحاجة إلى التصحيح وقد يحتاج المتخصصون إلى قرون للكشف عن تلك الأخطاء المتراكمة وهذا ما حدث بالفعل.
أما النظام التقويم القمري فيستحيل عليه الخطأ وإن وقع الخطأ فيكون من جهة البشر وبإمكان أي إنسان أن يكتشفه في غضون يوم أو يومين ويتم تصحيح العمل به تلقائيًا.
والتقويم القمري تقويم رباني سماوي كوني توقيفي قديم قِدَم البشرية ليس من ابتداع أحد الفلكيين، وليس للفلكيين سلطان على أسماء الشهور العربية القمرية، ولا على عددها أو تسلسلها أو أطوالها، وإنما يتم كل ذلك في حركة كونية ربانية.
وقد تم تحديد عدد الشهور السنوية في كتاب الله القويم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
وفي الوقت الذي عبث الفلكيون بتقويم الأمم الأخرى -في أسماء شهورها وأطوالها وهيئاتها وتسلسلها- فإنه لا سلطة للفلكيين أو غيرهم على التقويم القمري؛ بحيث لا يستطيع أحد استبدال اسم شهر بشهر أو موقع شهر بشهر أو يزيد فيه يومًا، أو ينقص منه يومًا، فهو تقويم كامل لا يحتاج إلى تعديل أو تصحيح، وهو رباني من تقدير العزيز العليم.
ولكن بعض الشركات والمؤسسات تُبرِّر اعتمادها على التاريخ الميلادي بأنه ثابت بينما التاريخ الهجري متغير فتارة يكون الشهر 29 يومًا، وتارة يكون 30؛ ومع هذا التغيير يصعب وضع خطط وبرامج الشركات بناء على ذلك والجواب أن الخطط والبرامج طويلة المدى يمكن أن توضع على التقاويم الهجرية، وهي تقاويم مدنية اصطلاحية وضعت لعشرات السنين فيمكن أن يعتمد عليها في وضع الخطط والبرامج وفي العقود والتعاملات المدنية عامة.
فتقويم أم القرى وهو التقويم الرسمي في المملكة العربية السعودية قامت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بإعداده حتى نهاية عام 1450هـ وهو تقويم ثابت ولسنوات طويلة فيمكن وضع الخطط والبرامج المستقبلية بناءً عليه، أما أمور العبادة من الصيام والحج وغيرها فتعتمد على رؤية الهلال في أول الشهر.
– دخول الشهر القمري وخروجه:
يثبت دخول الشهرالقمري برؤية الهلال لقوله صلى الله علي وسلم: «البخاري). » (رواه
يرى البعض بأن ترائي الهلال بالطريقة التقليدية فيه شيء من العنت مع وجود التقنيات الحديثة من مناظير وكاميرات فلكية بإمكانها الكشف عن دخول الشهر في أسوأ الظروف المناخية دون الحاجة إلى النظر إلى الهلال بالعين المجردة؟
وجواب ذلك:
أن القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «القيامة، وهي صالحة لكل زمان ومكان سواء كانت العلوم الدنيوية متقدّمة أو غير متقدّمة وسواءً وُجدت الآلات أو لم توجد وسواءً كان في أهل البلد من يُجيد الحسابات الفلكية أو لم يكن فيهم من يُجيد ذلك، والعمل بالرؤية يُطيقه الناس في كل عصر ومِصر بخلاف الحسابات التي قد يوجد من يعرفها وقد لا يوجد، وكذلك الآلات التي قد تتوفر وقد لا تتوفّر. » من أن العِبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال بالعين، فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم عامة خالدة مستمرة إلى يوم
ثانيًا:
أن الله تعالى عَلِمَ ما كان وما سيكون من تقدُّم علم الفلك وغيره من العلوم ومع ذلك قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « » الحديث، فعلّق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال ولم يعلّقه بعلم الشهر بحساب النجوم مع عِلمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدَّمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها، فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطارعلى رؤية الهلال وهو كالإجماع من أهل العلم ومن خالف في ذلك وعوّل على حساب النجوم فقوله شاذ لا يُعوَّل عليه، والله أعلم (فتاوى اللجنة الدائمة: [10/106]).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حدث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِ
-وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ -يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ-».وقال القرطبي تعليقًا على الحديث: “إن الله لم يكلفنا في تعرُّف مواقيت صومنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة يستوي في معرفتها الحُسَّاب وغيرهم”.
نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب، وما ورد في الكتاب والسنة، واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك، فقرَّروا بإجماع عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « » الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: « » الحديث وما في معنى ذلك من الأدلة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: عبد الله بن قعود، عبد العزيز بن باز).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة؛ أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «
».وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: “إن الله سبحانه وتعالى علق بالهلال أحكامًا كثيرة كالصوم والحج والأعياد والعدة والإيلاء وغيرها، لأن الهلال مشهود مرئي بالأبصار ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الحكم بالهلال معلقاً على الرؤية وحدها، لأنه الأمر الطبيعي الظاهر الذي يستطيعه عامة الناس فلا يحصل لبس على أحد في أمر دينه”.
يجوز استعمال المراصد الفلكية لرؤية الهلال كالدربيل وهو المنظار المقرِّب، ولكنه ليس بواجب، فلو رأى الهلال عبرها من يُوثَقُ به فإنه يُعمل بهذه الرؤية، وهو اختيار ابن باز، وابن عثيمين، وبه صدر قرار هيئة كبار العلماء، وهو قرار مجمع الفقه الإسلامي، (مجمع الفقه الإسلامي الدولي).
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: “الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ». أما الآلات فظاهر الأدلة الشرعية عدم تكليف الناس بالتماس الهلال بها، بل تكفي رؤية العين. ولكن من طالع الهلال بها وجزم بأنه رآه بواسطتها بعد غروب الشمس وهو مسلم عدل، فلا أعلم مانعًا من العمل برؤيته الهلال؛ لأنها من رؤية العين لا من الحساب”.
المؤامرة لطمس التاريخ الهجري:
إن إزالة التاريخ الهجري وتجهيل الشعوب الإسلامية به؛ مؤامرة استمرت قرونًا متوالية ففي القرن “الثاني عشر الهجري – الثامن عشر الميلادي” لما أرادت الدولة العثمانية تجديد جيشها وسلاحها طلبت مساعدة الدول الأوروبية فرنسا وألمانيا، فوافقوا بشروط منها إلغاء التقويم الهجري.
وفي القرن “الثالث عشر الهجري – التاسع عشر الميلادي” عندما أراد خديوي مصر إسماعيل أن يقترض مبلغًا من الذهب من إنجلترا وفرنسا؛ لتغطية مصاريف حفر قناة السويس، اشترطتا عليه ستة شروط، منها: “إلغاء التقويم الهجري في مصر”؛ فتم إلغاؤه سنة 1292هـ/ 1875م، واستبدال التقويم القبطي والميلادي به.
إلى أن جاءت الموجة الاستعمارية وما تبعها من تغريب وفقدان للهوية أدَّت إلى سقوط الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك الذي أصدر قرارًا
بإلغاء التاريخ الهجري واستبداله بالتاريخ الروماني (الميلادي) عام 1344هـ الموافق 1926م، وبعد ذلك حرص المستعمر الصليبي على محو الهوية الإسلامية للبلاد المستعمرة من خلال فرض التاريخ الميلادي على تلك البلاد في جميع تعاملاتها الرسمية والاجتماعية وعمل على بقاء العمل به حتى بعد جلاء الاستعمار عنها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحمد آل هداف
Source link