قال ابن مسعود رضي الله عنه: “من أراد أن يعلم أنه يحِب الله فليعرِض نفسه على القرآن؛ فإن أحب القرآن فإنه يحب الله، فإنما القرآن كلامه عز وجل”.
أَيُّهَا الأخوَةُ، فإن مما أُمِرَت به هذه الأمة تعظِيم كتاب الله عز وجل، وإن من أرفع مقامات الأدب مع الله أن تُعظِّم كلامه وتُجِلَّه وتُكرمه؛ لأن فضل كلام الله على كلام غيره كفضله هو سبحانه على جميع خلقه، وعلى قدر عظمة القائل يكون تعظيم الكلام: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، فإنَّ تعظيمَ كلامِ الله هو تعظيمٌ لله جل جلاله.
وتأمَّلْ تعظيم الله سبحانه وتعالى لكلامه بنفسه؛ فقد قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192]، وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] فهو عظيمٌ عندَ الله، وهو في اللوحِ المحفوظ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، قال ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: “بيَّن شرَفَه في الملأ الأعلَى ليشرِّفَه ويُعظِّمَه ويطيعَه أهلُ الأرضِ”.
وقد اختار الله تعالى لنزول كتابه أعظم ليلة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]، ﴿ { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1 – 3]، واصطفى من الملائكة أكرمَهم لتنزيله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]، ومن البشر أطهرَهم وأتقاهم لتبليغه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم: {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194] في أعظم بقعةِ أرضٍ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، ثم عظَّم الله جل وعلا كتابَه بأن وَصَفه بأسمى الصفات، وأجلِّ النعوت، وأجمل الأسماء، فهو سبحانه المبتدئ أولًا بتعظيم كلامه جل وعلا.
وبادرت الملائكةُ الأطهار البررةُ إلى تعظيم القرآن: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 – 16]، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 – 79]، وروى البيهقي بسند صحيح عن عليٍّ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا قام يصلي أتاه المَلَكُ، فقام خلفه يستمع القرآن ويدنو، فلا يزال يستمع ويدنو حتى يضعَ فاه على فِيهِ، فلا يقرأ آيةً إلا كانت في جَوفِ المَلَك»، وذلك من تعظيم الملائكة لكلام الله جل وعلا.
وحتى الجنُّ لما سمعوا هذا القرآن آمَنوا به، وعظَّموه، ودعَوْا إليه مَن وراءَهم مِن أقوامِهم؛ كما قال تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيم} [الأحقاف: 29، 30]، وأنزل الله تعالى في ذلك سورةَ الجنِّ.
وما إن نزل على قلب رسول صلى الله عليه وسلم حتى عَلَّمَ وربَّى الجيلَ الأولَ لهذه الأمة على تعظيم القرآن الكريم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَمَس القرآنَ إلا طاهرٌ»، وقال: «طيِّبُوا أفواهَكُم بالسواكِ، فإِنَّها طُرُقُ القرآنِ»؛ (رواه البزار، وصححه الألباني)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «لا يرفع بعضكم صوته بالقرآن على بعض»، وكان صلى الله عليه وسلم يغضب إذا رأى أحدًا من الصحابة يقرأ في كتب الأمم السابقة، وكُلُّ ذلك من التعظيم للقرآن والوحي، حتى نشَّأ جيلًا فريدًا من الصحابة يعظِّمون القرآن غاية التعظيم، ساروا على نهج القرآن الكريم، فأصبَحوا خيرَ أمّةٍ أُخرِجَت للناس، لم يكُن القرآن عندَهم محفوظًا في السطور، بل كان مَكنونًا في الصدور ومحفوظًا في الأخلاقِ والأعمال، يَسير أحدُهم في الأرضِ وهو يحمِل أخلاقَ القرآن وآدابَه ومبادِئَه.
وهكذا كان الصحابة يُجِلُّون القرآن ويعظِّمونه بينهم، ثم سار الركب حتى عظَّم التابعون والصالحون من بعدهم كتابَ الله سبحانه؛ فهذا أبو العالية رحمه الله: إذا قرأ القرآن اعتمَّ ولبِس رداءه، واستقبل القبلة، وكان يكره أن يُقال: سورة صغيرة؛ لأن القرآن كله عظيم ولا صغير فيه، ولما رأى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ابْنًا له يكتب القرآن على حائط ضربه؛ لأن هذا ليس من التعظيم، وهذا مجاهد رحمه الله يقول: “إذا تثاءبتَ وأنت تقرأ القرآن، فأمسكْ عن القرآن العظيم حتى يذهب تثاؤبك” وهذا قتادة رحمه الله يقول: “ما أكلت الكراث منذ قرأت القرآن” وقال النوويُّ رحمه الله: “أجمع المسلِمون على وجوبِ تعظيمِ القرآنِ العزيزِ على الإطلاقِ، وتنزِيهِه، وصِيانتِه” والأمثلة على ذلك كثيرة.
فإذا عرفتَ -أخي الحبيب- عظمةَ هذا القرآن ومكانتَه عند ربِّ العالمين الذي أنزلَه، وعند الملائكة، وعند الجنِّ، وعند الأنبياء والمرسلين، وعند الصحابة والتابعين؛ فما هي منزلةُ القرآن عندك، وهل امتلأ قلبُكَ تعظيمًا له؟ فإنَّ الكلامَ يعظُم بعِظَم قائله، فكيف إذا كانَ المتكلِّم هو الله جل جلاله؟
فما هي علامات وصور تعظيم القرآن الكريم؟
1- فإنَّ من علامات تعظيم القرآن: أن نعمُر قلوبنا بمحبة القرآن؛ فإن محبته من محبة من تكلَّم به جل شأنه؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: “من أراد أن يعلم أنه يحِب الله فليعرِض نفسه على القرآن؛ فإن أحب القرآن فإنه يحب الله، فإنما القرآن كلامه عز وجل”.
2- وإن من علامات التعظيم للقرآن: أن نعتقد كمال القرآن، وأنه لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأنه سالمٌ من الاضطراب أو التعارض أو التناقض؛ قال الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، وقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
3- وإن من التعظيم للقرآن: أن نتلقَّاه كلَّه بالقبول، وألَّا يُرد شيء من القرآن، فإن من ردَّ شيئًا من القرآن فإنما يرد على من تكلم به جلَّ في علاه؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: “القرآن كلام الله، فمن ردَّ شيئًا من القرآن فإنما يرد على الله عز وجل”.
4- وإن من التعظيم للقرآن: أن يُحذر أشد الحذر من الاستهزاء بشيء من آياته، أو الانتقاص لشيء من مضامينه، فإن هذا كفرٌ بالله جل في علاه، قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66].
5- ومن التعظيم للقرآن: أن نعتقد شموله ووفاءه بجميع المطالب، وأنه اشتمل على بيان كل ما يحتاج إليه العباد من مصالحهم الدينية والأخروية؛ كما قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فهو كتاب قد استوفى جميع حاجات العباد ومطالبهم، ففيه أكمل العقائد، وأعظم الآداب وأكمل العبادات، وقد استوفى جميع الحاجات والمطالب.
6- ومن التعظيم للقرآن: أن نحذر أشد الحذر من الهجر للقرآن؛ قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وقد بيَّن العلماء: أن الهجر للقرآن يكون بالهجر للتلاوة، ويكون بالهجر للتدبر والتأمل، ويكون بالهجر للعمل به، فإن القرآن إنما أُنزل ليُعمل به.
7- ومن التعظيم للقرآن: أن نجاهد أنفسنا على تلاوته حق التلاوة؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121] ؛ ومعنى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} كما ذكر العلماء: أي بالجمع بين القراءة، وحُسْن الفهم للمعاني، والعمل بدلالات القرآن وهداياته العظيمة.
8- ومن التعظيم للقرآن: الرضا بحكمه والخضوع لما جاء به وعدم معارضته بكلام البشر لا في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
9- ومن التعظيم للقرآن: أن يقصد تاليه وحافظُه بذلك وجه الله لا الرياء، ولا السمعة والشهرة؛ فإنَّ أول مَن تُسعَّر بهم النار يوم القيامة: «رجل قرأ القرآن لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ».
10- وإن من التعظيم للقرآن: أن يتأدَّب بآداب تلاوته وسماعه، وذلك بأنه يجب الإنصات له؛ فإن من تعظيمه، أنه إذا قُرِئ فإن علينا أن نُنصِتَ، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وألَّا يقرأه وهو جُنُب، وألَّا يمس القرآن إلا طاهر؛ لعموم قول الله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ»، وأن يحرص على نقاء فمه وطهارته وهو يقرأ كلام الله؛ كما رُوِيَ ذلك عن علي رضي الله عنه: «إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ؛ فَطَيِّبُوهَا بِالسِّوَاكِ»، وألَّا يُعرَّض القرآن لشيء من الامتهان؛ فلا تُمد الأرجل إليه، ولا يُتكئ عليه، ولا يُتوسَّد، ولا يُلقى في الأرض ويُطرح ونحو ذلك، فإن من التعظيم للقرآن أن يتجنَّب المرء ذلك كله، وأن يحذر من ذلك أشد الحذر.
فكيف نُعظِّم القرآن الكريم؟
1- فإنَّ من أعظم أسباب تعظيم القرآن الكريم: أن نستشعر عظمة من تكلم به جلَّ في علاه، وأنَّ هذا القرآن هو كلام رب العالمين وخالق الخلق أجمعين، كما قال الله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192، 193] فإنَّ الكلامَ يعظُم بعِظَم قائله، فكيف إذا كانَ المتكلِّم هو الله جبَّار السماوات والأرضِ؟ {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج: 32] وعنوانُ الشعائر الإلهيّة هو القرآنُ العظيم الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بين يدَيه ولا مِن خلفه.
2- ومن أسباب تعظيم القرآن الكريم: أن نعتقد أنه أعظم الكلام وأفضله وأجلُّه على الإطلاق، لا كان ولا يكون في الكلام مثله ولا قريب منه، والفرق بين كلام الله وكلام خلقه كالفرق بينه وبين خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وكذلك ليس كمثل كلامه كلام، قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي رحمه الله تعالى: “فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه”.
كيف كان تعظيم السلف الصالح للقرآن؟
المُتتبِّع لحال السلف الصالح يرى عجبًا في تعظيمهم لكتاب الله تعالى، فلقد كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يُجِلُّون القرآن ويعظِّمونه بينهم، ذكر القرطبي رَحِمه اللهُ في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “عظِّموا القرآن”، فكانوا يطبقون القرآن، ويمتثلون لأوامره ونواهيه، وضربوا أروع الأمثلة في سرعة الاستجابة والامتثال، وإليك طرفًا من أحوالهم:
فأما عن حالهم مع الآيات التي تأمر بتَرْك المحرَّمات: فهو سرعة الامتثال والاستجابة للنهي وإن كانت النفس متعلِّقة بها، فعندما نزلت آيةُ تحريم الخمر، قاموا فأراقوا الخمر حتى سالت سكك المدينة بجرار الخمر، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90- 91]، فقالوا: انتهينا ربنا وسالت سكك المدينة بجرار الخمر؛ فهذا حالهم مع أم الخبائث التي إذا أُشْرِبَ القلبُ حبَّها صَعُبَ عليه الانفكاك منها؛ فلذا في هذا الزمان مَنْ أدمنها وغيرها من المسكرات يحتاج إلى علاجٍ صحيٍّ، وتهيئةٍ نفسيةٍ للتخلُّص منها، وربما عاد إليها، لكن مع قوة الإيمان يغلب حبَّها خوفُ القلب من الله، وتعظيم النهي؛ فلذا يشغله خوفه من الله عن التفكير فيها!
وكانوا يتسابقون لينالوا السبق في سرعة الاستجابة والامتثال لآيات القرآن الكريم؛ فهذا أبوسعيد بن المعلى رضي الله عنه يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ آيات تغيير القبلة، قال: “فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى، فتوارينا بعماد فصليناها”؛ (رواه النسائي).
وكانوا يقفون عند أوامره ونواهيه؛ عن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قال: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ: يَا بْنَ أَخي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ رضي اللَّه عنه، فَلَمَّا دَخَل قَالَ: هِي يَا بْنَ الخَطَّابِ! فَوَاللَّه مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ رضي اللَّه عنه حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، واللَّهِ مَا جاوزَهَا عُمرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى؛ (رواه البخاري).
وكانوا نموذجًا يُحتذى به في الرجوع إلى الحق مع الاعتراف عند تبين الخطأ بعد سماع الآيات من القرآن: فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا يتراجع عن رأيه الذي ظهر له فيه خطؤهُ، بعد أن نبهته امرأةٌ لذلك، وذلك حينما عزم على تحديد مهور النساء وعدم المغالاة فيها؛ ففي سنن البيهقي وغيره، عن الشعبي رحمه الله، قال: (خطب عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه الناسَ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال) ثم نزل، فعرضت له امرأةٌ من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين، أكتاب الله تعالى أحقُّ أن يتبع أو قولك؟! قال: بل كتاب الله تعالى، فما ذاك؟! قالت: نهيتَ الناسَ آنفًا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فقال عمر رضي الله عنه: كلُّ أحدٍ أفقهُ من عمر مرتين أو ثلاثًا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: (إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له).
وأما عن حالهم مع القرآن مع آيات الوعيد: فكان الواحدُ منهم ما إنْ يسمع الآية إلا ويخشى أن يكون من أهلها! فهذا ثابت بن قيس بن شمَّاس رضي الله عنه (خطيب الأنصار) كان من عادته أنه يرفع صوته أثناء الكلام، فلما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: “أنا من أهل النار”. واحتَبَس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بنَ معاذ رضي الله عنه، فقال: «يا أبا عمرو، ما شأن ثابت، أَشتكى» ؟!))؛ قال سعد: إنه لَجاري، وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعدٌ، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنْزِلَتْ هذه الآية، ولقد علمتم أنِّي من أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذَكَرَ ذلك سعدٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»؛ (رواه البخاري، ومسلم).
وأما عن حالهم مع قراءة وتلاوة القرآن: فقد كانوا يحزبون القرآن، ليختموه في سبعة أيام، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه إذا قرأ القرآن لم يتكلَّمْ حتى يفرُغَ، وكان أبو موسى رضي الله عنه يقول: “إني لأستحي ألَّا أنظر كلَّ يوم في عهد ربي مرة” وكان قتادة يختم في كل سبع، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة. والأمثلة على ذلك كثيرة.
وأما عن حالهم مع القرآن في صلاتهم: فقراءةُ تدبُّرٍ وخشوع تُورِث الخشية، وربما غلبهم البكاء فمنعهم من القراءة، ولما اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ؛ فقال: «مُرُوا أبا بكرٍ، فلْيُصَلِّ بالناس»، قالت عائشةُ: إن أبا بكرٍ رجلٌ رقيقٌ، إذا قرأ غَلَبَه البكاء! قال: «مُرُوه فيُصَلِّ»؛ (رواه البخاري ومسلم)، وعن عبدالله بن شداد بن الهاد رحمه الله قال: “سمعتُ نشيجَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني لفي آخِر الصفوف، إنما أشكو بَثِّي وحزني إلى الله”؛ (رواه سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح).
وأما عن حالهم عند سماع القرآن: فهي المذكورة في القرآن، وهي وَجَل القلوب، ودموع العيون، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
وعن عبدالله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن؟ قالت: (تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله)، فهذا هو حال الصحابة عند سماعهم القرآن: خوفُ القلوب، واقشعرار الجلود، وذَرْف العيون.
ولو قارنَّا واقع المسلمين اليوم مع القرآن لرأينا صورًا عديدة من الهجر: فهذا هجر تلاوته، والآخر هجر حفظه وتدبُّره والعمل به، والآخر ربما هجر تعلُّمَه وتعليمَه لغيره، وغيرها من صور الهجر!
ولو قارنَّا أيضًا واقع عموم المسلمين اليوم مع القرآن وتعظيمه، لرأينا صورًا كثيرة من الاستخفاف أو عدم التعظيم، فالبعض يمدُّ قدمَه تجاه المصحف، والآخر يجلس على كرسي والمصحف تحته، وثالث يسند ظهره إلى المصحف، والبعض يفترش أوراق الصحف المليئة بآيات القرآن، فيجعلها سفرة للطعام، ولا ينبغي امتهان أو استصغار أو احتقار القرآن ولا آية منه.
فإننا اليوم أيها الإخوة، في أمسِّ الحاجة إلى تعظيم هذا القرآن في النفوس والقلوب والصدور: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
نسأل الله العظيم أن يملأ قلوبنا تعظيمًا للقرآن الكريم، وأن يرزقنا حسن تلاوته والعمل به، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
____________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي
Source link