إن سترَ عيوب أهل المعاصي غير المعتادين على المعاصي مِن الأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن يتحلَّى بها المسلم الكريم لكي يساعد أهل المعاصي على التوبة الصادقة، والرجوع إلى الله تعالى
الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُـحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
إن سترَ عيوب أهل المعاصي غير المعتادين على المعاصي مِن الأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن يتحلَّى بها المسلم الكريم لكي يساعد أهل المعاصي على التوبة الصادقة، والرجوع إلى الله تعالى، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الله تعالى يحب الستر:
♦ رَوَى أبو داودَ عَنْ يَعْلَى بن أمية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ»؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 3387).
♦قال الإمام ابن الأثير (رحمه الله): سِتِّير: أي مِن شَأنه وإرادتِهِ حُبُّ السَّتر والصَّون؛ (النهاية، ابن الأثير، جـ 2، صـ 341).
واجب أهل المعصية نحو أنفسهم:
يجب على كل مسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي أهل بيته، وفي أمواله، وفي الناس جميعًا، وأن يتجنب معصيته، فإذا تغلب عليه شيطانه وأوقعه في معصية، وجب عليه أن يستر نفسه بستر الله، ولا يفضح نفسه بين الناس، وأن يتوب إلى الله من قريب.
روى الشيخانِ عن أَبَي هُرَيْرَةَ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِن الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»؛ (البخاري، حديث 6069 / مسلم، حديث 2990).
روى الشيخانِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ مسعودٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا دَعَاهُ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فَقَالَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا لَهُ خَاصَّةً، قَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً؛ (البخاري، حديث 4687 / مسلم، حديث 2763).
يجب على العاصي أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة:
♦قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]، وقال سبحانه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39].
شروط التوبة من المعصية
♦ قَال الإمَامُ النووي (رَحِمَهُ اللهُ): قَالَ العُلماءُ: التَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب، فإنْ كَانتِ المَعْصِيَةُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لا تَتَعلَّقُ بحقِّ آدَمِيٍّ فَلَهَا ثَلاثَةُ شُرُوط: أحَدُها: أَنْ يُقلِعَ عَنِ المَعصِيَةِ. والثَّانِي: أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا. والثَّالثُ: أَنْ يَعْزِمَ أَلَّا يعُودَ إِلَيْهَا أَبَدًا.
فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتُهُ. وإنْ كَانَتِ المَعْصِيةُ تَتَعَلقُ بآدَمِيٍّ فَشُرُوطُهَا أرْبَعَةٌ: هذِهِ الثَّلاثَةُ، وأنْ يَبْرَأ مِنْ حَقِّ صَاحِبِها، فَإِنْ كَانَتْ مالًا أَوْ نَحْوَهُ رَدَّهُ إِلَيْه، وإنْ كَانَت حَدَّ قَذْفٍ ونَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ، وإنْ كَانْت غِيبَةً استَحَلَّهُ مِنْهَا. ويجِبُ أنْ يَتُوبَ مِنْ جميعِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ تَابَ مِنْ بَعْضِها صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ مِنْ ذلِكَ الذَّنْبِ، وبَقِيَ عَلَيهِ البَاقي؛ (رياض الصالحين للنووي، صـ 25:24).
أضرار جهر أهل المعاصي بمعصيتهم:
♦ قال ابن بطال: فِي الْجَهْرِ بِالْمَعْصِيَةِ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْعِنَادِ لَهُمْ، وَفِي السّتْرِ بِهَا السَّلَامَةُ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ؛ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ تُذِلُّ أَهْلَهَا، وَمِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِيهِ حَدٌّ، وَمِنَ التَّعْزِيرِ إِنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا، وَإِذَا تَمَحَّضَ حَقُّ اللَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ؛ فَلِذَلِكَ إِذَا سَتَرَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَفْضَحْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي يُجَاهِرُ يَفُوتُهُ جَمِيعُ ذَلِكَ؛ (فتح الباري لابن حجر، جـ 10، صـ 503).
الله تعالى يستر المؤمنين يوم القيامة:
♦ رَوَى الشيخانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ( (ستره وعفوه) ) وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ» : {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]؛ (البخاري، حديث 2441 / مسلم، حديث 2768).
نبينا صلى الله عليه وسلم يوصينا بستر العصاة:
♦ قال اللهُ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
♦ وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
(1) رَوَى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ (مسلم، حديث 2590).
(2) رَوَى الشيخانِ عن عَبْدِاللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ (البخاري، حديث 2442 / مسلم، حديث 2580).
(3) رَوَى أبو داود عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَن اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِع اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ»؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 4083).
(4) رَوَى أبو داودَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّكَ إِنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ»؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 4088).
(5) رَوَى الشيخانِ عن عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ (جماعة) مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» (فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك؛ (البخاري، حديث 18 / مسلم، حديث 1709).
(6) رَوَى أحمدُ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ (هَزَّال بن يزيد الأسلمي) قَالَ: كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي، فَأَصَابَ جَارِيَةً مِن الْحَيِّ فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْرَجٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ» ؟ قَالَ: بِفُلَانَةَ، قَالَ: «هَلْ ضَاجَعْتَهَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «هَلْ بَاشَرْتَهَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «هَلْ جَامَعْتَهَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، قَالَ: فَأُخْرِجَ بِهِ إِلَى الْحَرَّةِ، فَلَمَّا رُجِمَ فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ جَزَعَ، فَخَرَجَ يَشْتَدُّ، فَلَقِيَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَقَدْ أَعْجَزَ أَصْحَابَهُ، فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ، قَالَ: ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي حِينَ رَآهُ: «وَاللَّهِ يَا هَزَّالُ، لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا مِمَّا صَنَعْتَ بِهِ»؛ (حديث صحيح لغيره) (مسند أحمد، جـ 36، صـ 214).
سلفنا الصالح يسترون أهل الـمعاصي:
كان سلفنا الصالح يحرصون على ستر أهل المعاصي، وقد ظهر ذلك في أقوالهم وأفعالهم، وسوف نذكر بعضًا منها:
(1) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ لَمْ أَجِدْ لِلسَّارِقِ وَالزَّانِي وَشارِبِ الْخَمْرِ إِلَّا ثَوْبِي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْتُرَهُ عَلَيْهِ؛ (مصنف عبدالرزاق، جـ 10، صـ 227).
(2) كَانَ شُرَحْبِيلُ بْنُ السَّمْطِ عَلَى جَيْشٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ نَزَلْتُمْ أَرْضًا فِيهَا نِسَاءٌ وَشَرَابٌ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ حَدًّا، فَلْيَأْتِنَا حَتَّى نُطَهِّرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا أُمَّ لَكَ! تَأْمُرُ قَوْمًا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتِكُوا سِتْرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ (الزهد لوكيع، جـ 2، صـ 774، رقم 455).
(3) أَشْرَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى دَارِهِ بِالْكُوفَةِ فَإِذَا هِيَ قَدْ غُصَّتْ بِالنَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ جَاءَ يَسْتَفْتِينَا فَلْيَجْلِسْ نُفْتِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَ يُخَاصِمُ فَلْيَقْعُدْ حَتَّى نَقْضِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِعَنَا عَلَى عَوْرَةٍ قَدْ سَتَرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيَقْبَلْ عَافِيَةَ اللَّهِ، وَلْيُسْرِرْ تَوْبَتَهُ إِلَى الَّذِي يَمْلِكُ مَغْفِرَتَهَا، فَإِنَّا لَا نَمْلِكُ مَغْفِرَتَهَا، وَلَكِنَّا نُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّهَا، وَنُمْسِكُ عَلَيْهِ بِعَارِهَا؛ (مصنف عبدالرزاق، جـ 10، صـ 230).
(4) قَالَتْ امْرَأَةٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلًا أَخَذَ بِسَاقِي وَأَنَا مُحْرِمَةٌ، فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حِجْرًا حِجْرًا حِجْرًا (سترًا) وَأَعْرَضَتْ بِوَجْهِهَا، وَقَالَتْ بِكَفِّهَا: يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا أَذْنَبَتْ إِحْدَاكُنَّ ذَنْبًا فَلَا تُخْبِرَنَّ بِهِ النَّاسَ، وَلْتَسْتَغْفِرِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلْتَتُبْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ يُعَيِّرُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُغَيِّرُ وَلَا يُعَيِّرُ؛ (مكارم الأخلاق للخرائطي، صـ 503).
(5) روى عَبْدُالرَّزَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَخَذَ سَارِقًا، ثُمَّ قَالَ: أَسْتُرُهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَسْتُرُنِي؛ (مصنف عبدالرزاق، جـ 10، صـ 226).
(6) قَالَ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ أَطْفَأَ عَلَى مُؤْمِنٍ سَيِّئَةً فَكَأَنَّمَا أَحْيَا مَوْءُودَةً؛ (مكارم الأخلاق للخرائطي، صـ 480).
(7) قال الحسن البصري: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ سِتْرٌ فَلَا يَكْشِفْهُ؛ (مكارم الأخلاق للخرائطي، صـ 495).
(8) قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ بَدْرٍ: لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا يَسْتُرُونَ الذُّنُوبَ؛ (مكارم الأخلاق للخرائطي، صـ 502).
(9) قَالَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَام: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي فِي سِرٍّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ فَإِنَّ النَّصِيحَةَ فِي الْمَلَأِ تَقْرِيعٌ؛ (بهجة المجالس لابن عبدالبر، جـ 1، صـ 47).
(10) قَالَ شُبَيْلُ بْنُ عَوْفٍ الْأَحْمَسِي: كَانَ يُقَالُ: مَنْ سَمِعَ بِفَاحِشَةٍ فَأَفْشَاهَا، كَانَ فِيهَا كَالَّذِي بَدَأَهَا؛ (الزهد لوكيع، جـ 2، صـ 768، رقم 450).
(11) قَالَ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ الصَّالِحِينَ لِبَعْضِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ، فَإِنَّ ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْلَى الْأُمُورِ سَتْرُ الْعُيُوبِ؛ (جامع العلوم والحكم، جـ 3، صـ 1012).
(12) قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَدْرَكْتُ قَوْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُيُوبٌ، فَذَكَرُوا عُيُوبَ النَّاسِ، فَذَكَرَ النَّاسُ لَهُمْ عُيُوبًا، وَأَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانَتْ لَهُمْ عُيُوبٌ، فَكَفُّوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، فَنَسِيتُ عُيُوبَهُمْ؛ (جامع العلوم والحكم، جـ 3، صـ 1011).
لا يجوز للمسلم كشف عيوب أهل المعاصي
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
♦ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ}: قال السعدي: أي الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟ وسواء كانت الفاحشة صادرة أو غير صادرة، وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}؛ فلذلك عَلَّمكم وبَيَّنَ لكم ما تجهلونه؛ (تفسير السعدي ـ صـ563).
♦ قال ابن القيم: للعبد ستر بينه وبين الله وستر بينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله، هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس؛ (الفوائد لابن القيم، صـ 64).
أنواع الناس في ارتكاب الـمعاصي:
الناس في ارتكاب المعاصي على قسمين: مَنْ كان مستورًا، لا يُعرف بشيء مِن المعاصي، وَمَن كان مشتهرًا بالمعاصي، معلنًا بها.
القسم الأول:
مَنْ كَانَ مَسْتُورًا لَا يَعْرِفُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ، أَوْ زَلَّةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُهَا، وَلَا هَتْكُهَا، وَلَا التَّحَدُّثُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ النُّصُوصُ، وَفِي ذَلِكَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19]، وَالْمُرَادُ: إِشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ، أَوِ اتُّهِمَ بِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ. وَمِثْلُ هَذَا لَوْ جَاءَ تَائِبًا نَادِمًا وَأَقَرَّ بِحَدٍّ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ، لَمْ يُسْتَفْسَرْ، بَلْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَرْجِعَ وَيَسْتُرَ نَفْسَهُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَكَمَا لَمْ يُسْتَفْسَرِ الَّذِي قَالَ: أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. وَمِثْلُ هَذَا لَوْ أُخِذَ بِجَرِيمَتِهِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ يُشْفَعُ لَهُ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الْإِمَامَ. وَفِي مِثْلِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» (جامع العلوم والحكم، جـ 2، صـ 292).
قال الإمام النووي: السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ هَوَ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ؛ (مسلم بشرح النووي، جـ 16، صـ 135).
♦ قَالَ الْـمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ أحمد بن حنبل، اطَّلَعْنَا مِنْ رَجُلٍ عَلَى فُجُورٍ، وَهُوَ يَتَقَدَّمُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، أَخْرُجُ مِنْ خَلْفِهِ؟
قَالَ: اخْرُجْ مِنْ خَلْفِهِ خُرُوجًا لَا تفحش عَلَيْهِ.
♦ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ، أحمد بن حنبل: إذَا عُلِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْفُجُورُ أَنُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ يُسْتَرُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً؛ (الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي، جـ 1، صـ 233).
القسم الثاني:
مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا بِالْمَعَاصِي، مُعْلِنًا بِهَا لَا يُبَالِي بِمَا ارْتَكَبَ مِنْهَا، وَلَا بِمَا قِيلَ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْفَاجِرُ الْمُعْلِنُ، وَلَيْسَ لَهُ غِيبَةٌ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا بَأْسَ بِالْبَحْثِ عَنْ أَمْرِهِ لِتُقَامَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُشْفَعُ لَهُ إِذَا أُخِذَ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ السُّلْطَانَ، بَلْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِيَنْكَفَّ شَرُّهُ، وَيَرْتَدِعَ بِهِ أَمْثَالُهُ.
♦ قال الإمام مالك بن أنس: مَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ أَذًى لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ أَوْ فَسَادٍ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ (جامع العلوم والحكم، جـ 2، صـ 293).
♦ قال الإمام النووي: السَّتْرُ الْـمَنْدُوبُ إِلَيْهِ هُوَ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ؛ (مسلم بشرح النووي، جـ 16، صـ 135).
طريقة نبينا صلى الله عليه وسلم في ستر العصاة:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أخطأ أحد من الصحابة أو وقعت منه زلَّة لا يفضحه أمام الناس، ولكنه يجمع الناس ليحذرهم الوقوع في نفس الخطأ، فيقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا»، دون أن يصرح بأسمائهم.
♦ روى البخاريُّ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ»، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: «لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ»؛ (البخاري، حديث 750).
♦ روى الشيخانِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِن الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: «مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، مَرَّتَيْنِ»؛ (البخاري، حديث 7174 / مسلم، حديث 1832).
ستر عيوب العلماء وولاة أمور المسلمين:
إذا كان الواجب علينا ستر عيوب عامة الناس الذين لا يجاهرون بالمعاصي، فإن العلماء وولاة الأمور أولى الناس بستر العيوب؛ لأن كشف عوراتهم يزيل هيبتهم مِن صدور الناس؛ فيحدث في الناس مِن الفساد ما لا تُحمَد عُقْباه، فالناس لا يقبلون من أهل العلم فتوى ولا نصيحة، روى أبو داودَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ»؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 3679).
الحديث معناه: اعفُوا عَن أَصْحَابِ الْـمُرُوءَاتِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَذَوُي الْوُجُوهِ مِنَ النَّاسِ، الذين لا يجاهرون بالمعاصي، ولكن تقع منهم بعض الزلَّات؛ (عون المعبود، جـ 12، صـ 26:25).
النصيحة للعلماء وولاة الأمور تكون سرًّا:
♦ رَوَى أحمد عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً؛ وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ»؛ (حديث حسن لغيره) (مسند أحمد، جـ 3، صـ 404).
آثار ستر عيوب الناس:
نستطيع أن نوجز ثمرات عورات المسلمين في الأمور التالية:
(1) السَّتر صفة في الإنسان يحبُّها الله عزَّ وجلَّ.
(2) إنَّ مِن مقتضى أسمائه الحسنى السَّتر، فهو سِتِّير يحبُّ أهل السَّتْر.
(3) العبد إذا فعل المعصية واسترجع، ستره الله في الدُّنيا، وذكَّره بها في الآخرة، ثمَّ عفا عنه.
(4) السَّتْر يطفئ نار الفساد الـمُتأجِّجة في المجتمع.
(5) السَّاتر لعيوب النَّاس يرى في نفسه سعادةً وسرورًا.
(6) السَّاتر لعيوب نفسه يسلم من ألسنة النَّاس وسخط الله عزَّ وجلَّ.
(7) السَّتْر علاج اجتماعي جميل يختفي تحته كثير مِن أمراض المجتمع ثمَّ لا تنتشر.
(8) السَّتْر يثمر حسن الظَّنِّ بالله تعالى وبالناس.
(9) مَن ستر عيب غيره ستره الله في الدنيا والآخرة.
(10) يؤدي ستر عيوب الناس إلى المحبة والتعاطف بينهم.
(11) كَتم الأسرار نوع مِن السَّتْر يـُحمَد عليها صاحبها مِن النَّاس ومِن الله سبحانه؛ (موسوعة نضرة النعيم، جـ6، صـ2251).
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
Source link