والمَنَايا راصِدَات * * * للفتى حيثُ سَلَك
كلُّ شيءٍ قاتِل * * * حين تَلْقى أجَلك
د. بدر عبد الحميد هميسه
بسم الله الرحمن الرحيم
الموت هو الحقيقة الكبرى والغائبة والتي ينبغي على كل عاقل أن يتذكرها وأن لا تغيب أبداً عن ذهنه , ولكن الناس إلا من رحم الله تعالى يتناسون هذه الحقيقة حتى قال أحد الصالحين : ما رأينا حقا أشبه بباطل من الموت! قال تعالى : \” { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [ سورة الجمعة] .
والموت هو الحقيقة التي ينتهي عندها تجبر المتجبرين، وعتو المستكبرين، ولا يقدر أحد على الفرار منها , قال تعالى : \ {” قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)} [سورة الأحزاب] .
حينما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى في سورة الشعراء3: {{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}} [الشعراء: 214] وهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو نوفل وبنو عبد شمس أولاد عبد مناف. {{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ}} [الشعراء: 215، 216] أي: العشيرة والأقربون {{ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}} [الشعراء: 216] فجمعهم عليه الصلاة والسلام وقال لهم: \” «إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعًا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو! إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وإنها لجنة أبداً أو لنار أبداً» \” .: الخضري : نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ص 30.
وعَنْ عَائِشَةَ . قَالَتْ : «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ احَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ ، احَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ . فَقُلْتُ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، اكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ كَذَالِكِ . وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ احَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ ، فَاحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ ، وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» . [أخرجه مسلم 8/65] .
َقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَبِي حَازِمٍ : مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ قَالَ : لِأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ ، فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنْ الْعُمْرَانِ إلَى الْخَرَابِ .
قال صاحب العقد الفريد 1/324 : خرج أعرابيّ هارباً من الطاعون فَلَدغَتْه أفْعى في طريقه فمات، فقال أَخُوه يَرْثيه:
طافَ يَبْغِي نَجْوَةً * * * من هَلاكٍ فَهلَكْ
لَيْت شِعْري ضَلّةَ * * * أيًّ شيءٍ قَتَلك
أَجُحَاف سائلٌ * * * من جِبالٍ حَمَلك
والمَنَايا راصِدَات * * * للفتى حيثُ سَلَك
كلُّ شيءٍ قاتِل * * * حين تَلْقى أجَلك
قال تعالى : \” { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) } [سورة النساء] .
وقال : {\” وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [سورة الأنعام ] .
وروى الإمام أحمد وابن جرير عن عبد الله بن اليمن مولى الزبير بن العوام، قال: لما حضر أبو بكر تمثلت عائشة – رضي الله تعالى عنها – بهذا البيت:
أعوذك ما بقي العذار عن الفتي * * * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ورواه ابن سعد وغيره عنها – رضي الله تعالى عنها – قالت: لما ثقل أبو بكر تمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى * * * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وروى أبو يعلي برجال الصحيح عنها – رضي الله تعالى عنها – قالت: دخلت على أبي بكر فرأيت به وهو في الموت وفي لفظ: \” فرأيت به الموت \”، فقلت:
هيج من لا يزال دمعه مقنعا ** * فإنه في مرة مدفوق
فقال: لا تقولي هذا، ولكن قولي: \” وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) سورة ق.
وروى الإمام أحمد عنها أنها تمثلت بهذا البيت وأبو بكر يقضي.
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * * * ثمال اليتامي عصمة للارامل
فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر : الصالح : سبل الهدى والرشاد 11/261.
ومهما أخذ المرء حذره من الموت فإن له ساعة محددة سيأتيه الأجل فيها ولن يختلف الزمان ولا المكان عن الساعة المقدرة له , قال الذهبي : روي في الآثار القديمة : أن سليمان عليه السلام كان عنده رجل يقول : يا نبي الله : إن لي حاجة بأرض الهند فأسألك أن تأمر الريح أن يحملني إليها في هذه الساعة فنظر سليمان إلى ملك الموت عليه السلام فرأه يبتسم فقال : مم تتبسم ؟ قال : تعجبا : إني أمرت بقبض روح هذا الرجل في بقية هذه الساعة بالهند و أنا أراه عندك فروي أن الريح حملته في تلك الساعة إلى الهند فقبض روحه بها . الذهبي : التذكرة 93.
قال الشاعر :
مشيناها خطى كتبت علينا ** ومن كتبت عليه خطى مشاها
وأرزاق لنا متفرقات *** فمن لم تأته منا أتاها
ومن كانت منيته بأرض ** فليس يموت في أرض سواها
ذكر الشيخ علي الطنطاوي في سماعاته ومشاهداته:أنه كان بأرض الشام رجل له سيارة لوري، فركب معه رجل في ظهر السيارة، وكان في ظهر السيارة نعشمهيأ للأموات، وعلى هذا النعش شراع لوقت الحاجة، فأمطرت السماء وسال الماء فقام هذا الراكب فدخل في النعش، وتغطى بالشراع، وركب آخر فصعد على ظهر الشاحنة وجلس بجانب النعش، ولا يعلم أن في النعش أحدا ، واستمر نزول الغيث، وهذا الرجل الراكب الثاني يظن أنه وحده على ظهر السيارة،وفجأة يخرج هذا الرجل يده من النعش، ليرى هل كف الغيث أم لا ؟ ولما أخرج يده من النعش أخذ يلوح بها ، فأخد هذا الراكب الثاني بالهلع والجزع والخوف ، وظن أن هذا الميت قد عاد حيا، فنسي نفسه وسقط من السيارة، فوقع على أم رأسه ومات.
وكان هناك أحد الشباب قد صاحب أصدقاء السوء وكل يوم يخرج معهم للهو والشرب فتناه أمه فلا ينتهي , وفي يوم وقفت أمامه ومنعته للخروج معهم فذهب إلى حجرته وأغلق الباب ونام , وبعد ساعات اتصل بها أحد أقاربها وسألها عنه فقال : هو نائم بغرفته , فقال اشكري ربك فقد أنقذته العناية الإلهية من الموت فقد مات أصدقاؤه في حادث وكان من المفترض أن يكون معهم , فدخلت عليه والدته الغرفة لتخبره الخبر , فحركته فإذا هو قد مات .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
أي يوميَّ من الموت أفِرْ * * * يوم لا يُقْدَرُ أو يوم قدِرْ
يوم لا يُقْدَرُ لا أرهبه * * * وإذا قدِّر لا ينجي الحذرْ
وكان معاوية يتمثل بهذين البيتين:
كأن الجبانَ يرى أنه * * * سيقتل قبل انقضاء الأجلْ
وقد تدرك الحادثاتُ الجبان * * * ويسلم منها الشجاعُ البطلْ
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – : « لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ ، وَالدُّعَاءِ يَنْفَعُ مَمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، وَإِنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ ، فَيَتَلَقَّاُه الدُّعَاءُ ، فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوُمِ الْقِيَامَةِ» . [مستدرك الحاكم ( 2813 ) الألباني \”حسن\”، صحيح الجامع ( 7739 )] .
والإنسان مهما طال عمره وامتد وقته لا بد له من ساعة سيأتيه الموت فيها , فالموت لا يفرق بين صغير ولا كبير ولا بين مريض ولا صحيح , قال الشاعر :
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صبي يرتجى طول عمره *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وقال أبو العتاهية:
كلنا في غفلةٍ والـ *** موتُ يغدو ويروحُ
نُح على نفسكَ يا مسْـ *** كينُ إن كنتَ تنوحُ
لتموتنَّ وإن عُمّـ *** ـرتَ ما عمِّر نوحُ
عَنْ سِنَانٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَنَسٌ ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ، فَدَخَلَ يَوْمًا فَدَعَا لَنَا ، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ : خُوَيْدِمُكَ ، أَلاَ تَدْعُو لَهُ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ ، وَأَطِلْ حَيَاتَهُ ، وَاغْفِرْ لَهُ. فَدَعَا لِي بِثَلاَثٍ ، فَدَفَنْتُ مِئَةً وَثَلاَثَةً ، وَإِنَّ ثَمَرَتِي لَتُطْعِمُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ ، وَطَالَتْ حَيَاتِي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنَ النَّاسِ ، وَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ» .
– لفظ حَمَّاد بن زَيْد : قَالَ : «فَكَثُرَ مَالِي حَتَّى صَارَ يُطْعَمُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ ، وَكَثُرَ وَلَدِي حَتَّى قَدْ دَفَنْتُ مِنْ صُلْبِي أَكْثَرَ مِنْ مِئَةٍ ، وَطَالَ عُمُرِي حَتَّى قَدْ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ أَهْلِي ، وَاشْتَقْتُ لِقَاءَ رَبِّي ، وَأَمَّا الرَّابِعَةَ ، يَعْنِي الْمَغْفِرَةَ» . [أخرجه البُخَارِي ، في (الأدب المفرد) 653.]
يروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قد بلغه أن رجلا من أصحابه توفي، فجاء إلى أهله ليعزيهم فيه، فصرخوا في وجهه بالبكاء عليه، فقال: مه، إن صاحبكم لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت، وإن صاحبكم هذا، لم يسد شيئا من حفركم، وإنما سد حفرة نفسه، ألا وإن لكل امرئ منكم حفرة لا بد والله أن يسدها، إن الله عز وجل لما خلق الدنيا حكم عليها بالخراب، وعلى أهلها بالفناء وما امتلأت دار خبرة إلا امتلأت عبرة، ولا اجتمعوا إلا تفرقوا، حتى يكون الله هو الذي يرث الأرض ومن عليها، فمن كان منكم باكيا فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه صاحبكم كل الناس يصيرون إليه غدا.
قال ابن الجوزي : \” كيف يفرح من الموت بين يديه وكيف يلهو من ماله بلاء عليه وكيف يغفل ورسل الموت تختلف إليه كيف يلتذ بوطنه من يرى اللحد بعينيه\” . التبصرة 2/194.
فاستعد أيها العاقل وتنبه أيها الغافل وتذكر كيف سيأتيك الأجل وينتهي منك الأمل .
Source link