إنَّ ما أصاب المسلمين اليوم من الذُّلِّ والهوانِ هو بسببِ تركهِم الجهاد، فالجهادُ فرضه اللهُ العزيزُ الحكيمُ على هذه الأُمَّة؛ لأنَّ فيه دفعَ شرورٍ عظيمةٍ، وتحقيقَ مصالحَ كثيرةٍ دينيةٍ ودنيويةٍ.
إنَّ ما أصاب المسلمين اليوم من الذُّلِّ والهوانِ هو بسببِ تركهِم الجهاد، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38، 39]، وحين ترك المسلمون الجهاد تسلَّط عليهم الكفار والمنافقون، يقتلونهم، ويسجنونهم، ويسومونهم سوء العذاب، ويُذلونهم، ويَفتنونهم في دينهم، وينهبون خيراتِهم، ويُفسدون دنياهم، فالجهادُ فرضه اللهُ العزيزُ الحكيمُ على هذه الأُمَّة؛ لأنَّ فيه دفعَ شرورٍ عظيمةٍ، وتحقيقَ مصالحَ كثيرةٍ دينيةٍ ودنيويةٍ، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فحياة الأمة بالجهاد في سبيل الله، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
أيها المسلمون، فوائد الجهاد أرجح من المفاسد الدنيوية التي يؤجَر عليها المسلمون الصابرون حين تصيبهم بسبب الجهاد، من الخوف والجوع والمشقة والقتل والجِراح والخَراب، فالجهاد بضوابطه الشرعية خيرٌ للمسلمين في دينهم ودنياهم وآخرتهم؛ ولذلك أمر الله المسلمين بتحصيل القوة والاستعداد للجهاد بحسب طاقتهم، وإن لم يجاهد المسلمون الكفار، ويعُدُّوا العدة لقتالهم، فإنهم يُلقون بأيديهم إلى التهلكة، وسيخسر كثيرٌ منهم الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 194، 195]، قال بعض المفسرين: إلقاء اليد إلى التهلكة بترك الجهاد، وقال الله سبحانه: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
أيها المسلمون، الإسلام دين التضحية والجهاد، وقد أمر الله سبحانه المسلمين بالسعي الحثيث في تحصيل أسبابِ القوة المادية والمعنوية، والإعدادِ للجهاد في سبيله، ونهاهم عن الركون إلى الدنيا، والرضا بالمهانة والذلة.
قال الله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال جل وعز: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]، قال العلماء: يُشرَع غزوُ جميعِ أصناف الكفار المحاربين في حالِ قوة المسلمين، وأخذِ الجزية منهم أو مصالحتهم والهدنة معهم بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ولا يجوز قتلُ مَنْ لا يقاتِل المسلمين من النساء والأطفال والرهبان والتجار والسياح والمعاهدين والمستأمنين.
أيها المسلمون، قال العلماء: الكافر الذي لا يحارب المسلمين لا يجوز قتلُه، وقتلُه بغير حقٍّ فسادٌ لا يحبه اللهُ ورسولُه، فإنه لا يضرُّ المسلمين، وكل من سالَم المسلمين ولم يحاربهم لا يقاتَل، سواء كان كتابيًّا أو مشركًا، قال الله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90]، بل يُشرَع الإحسانُ إلى الكفار الذين لا يقاتلون المسلمين، كما قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].
والكفار المعاهِدون إن أسلموا فهو خيرٌ لهم، وإن نكثوا أيمانهم وجب قتالُهم، وإن وفَّوا بالعهد فلا يجوز نقضُ عهدهم، حتى وإن عوهدوا بلا جزية، قال الله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4].
أيها المسلمون، الجهاد في الإسلام هو لإعلاءِ كلمةِ الله، فمن أبى أن يعبد اللهَ الذي خلقه، ولم يؤمِنْ برسوله الذي أرسله ليُطاع بإذنه، وأعرض عن كتابه الذي أنزله الله لهداية الناس والحكم بينهم؛ فإنه ظالمٌ لنفسه، وسيكون في الآخرة من الخاسرين، ويجب أن يكون في الدنيا من الأذلين، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21].
وقد بين الله للمسلمين أسباب النصر في كتابه، فإذا أخذوا بها في أي زمان ومكان نصرهم الله، وإذا لم يأخذوا بها لم ينصرهم، وسيأتي الله بقوم آخرين خيرٌ منهم، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
أيها المسلمون، قتال مَن لم يُسلِم ويعبد الله وحده هو قتالٌ مشروعٌ بأمر الله، جزاءً على ظلمه حيث لم يعبد الله الذي خلقه لعبادته، قال الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فيجب على المخلوق أن يؤدي حق الله كما عليه أن يؤدي حقَّ عبادِ الله، فكما يجب على الإنسان طاعةُ والديه، وطاعةُ أميره، فيجبُ عليه من بابٍ أوْلَى طاعةُ خالقِه سبحانه، وكما يستحق الإنسانُ العقوبةَ على ترك طاعةِ والديه أو أميرِه، فمن بابٍ أولى استحقاقُه العقوبةَ في الدنيا والآخرة على ترك طاعةِ خالقِه ورازِقِه.
أيها المسلمون، ذكر الله لنا في سورة الكهف قصة ذي القرنين الملِك الصالح الذي مكَّن الله له في الأرض، وأمره أن يُعذِّبَ من أبى أن يعبد خالقَه، {قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 86 – 88]، {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ}؛ أي: استمر على كفره وشركه بربِّه {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ}؛ أي: بالقتلِ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}؛ أي: شديدًا بليغًا {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى}؛ أي: فله الجنة في الآخرة {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}؛ أي: معروفًا.
أيها المسلمون، لا يجوزُ عند قتال الكفار المحاربين قتلُ من كفَّ عن قتال المسلمين، ولا قتلُ من لم يكن من أهل القتال منهم، ولا الغدرُ بمن طلب الأمانَ منهم أو صالحَ المسلمين بدفعِ الجزية أو عاهدهم، فهدفُ الجهاد في الإسلام هو إعلاءُ كلمة الله، وإظهارُ دين الله، فلا يُبيحُ الإسلامُ القتالَ لغاياتٍ عدوانية، أو مقاصدَ مادية، أو لسيادةِ شعبٍ على شعب، أو توسيعِ رقعةِ مملكةٍ أو تحقيقِ مكاسبَ اقتصاديةٍ وغيرِ ذلك مما تجعله الدُّولُ القويةُ قديمًا وحديثًا مُبرِّرًا لإشعال الحروب، وهدمِ السِّلْم الدائم، فغايةُ الجهاد في الإسلام مبادئُ كريمةٌ يعمُّ نفعُها جميعَ الناس في الدنيا والآخرة.
ولا يجوز في الإسلام أن يُكْرَه أحدٌ على الدخول في الإسلام، قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقال الله سبحانه لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22]، فمن أبى الدخول في الإسلام، وأراد البقاء تحت حماية المسلمين أو في دولتهم؛ فله ذلك، على أن يدفع الجزية وهو صاغر جزاءَ استكباره عن الدخول في دين الله، وأمره أن يؤمن به وكتبِه ورسلِه، وأمره أن يشكره على نعمه، وأن يلتزم شريعتَه، وويلٌ له من الله يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت: 23].
صَحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كانت المرأة في الجاهلية تكون مِقْلاتًا لا يعيشُ لها ولد، فكانت تجعلُ على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّده، فلما أُجْلِيَ يهودُ بني النضير من المدينة كان فيهم من أبناء الأنصار قد تهوَّدوا، فقال الأنصار: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]).
أيها المسلمون، لا يصح الإسلام إلا عن رغبةٍ وقناعةٍ بلا إكراه، ولو أسلم إنسانٌ ظاهرًا بالإكراه فإنه في الحقيقة غيرُ مسلم، ويكونُ من المنافقين الذين يُظهِرون الإسلام ويُبطنون الكفر، فالإسلام دينٌ يوافق العقل والفطرة، فهو عبادةُ اللهِ وحده الذي خلق كل شيء، وتصديقٌ بجميع كتبه ورسله، فقد تبين الحقُّ من الباطل، فلا إكراه في الدخول في الإسلام.
الجهاد في الإسلام نوعان:
• جهادُ دفعٍ في حالِ ضعفِ المسلمين.
• وجهادُ غزوٍ في حالِ قوةِ المسلمين.
فإما أن يكون الجهادُ لدفعِ العدوِّ الذي غزا المسلمين في بلادهم، ويُريد فتنتهم في دينهم، وإما أن يكون لغزو الكفار في ديارهم، لإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن عبادة العِباد إلى عبادة ربِّ العباد، فإذا أسلموا عرفوا أنَّ قتال المسلمين لهم ما هو إلا علاجٌ لأنفسهم الظالمة، ودواءٌ لقلوبهم المريضةِ بالكفر والشرك والمعاصي، ولولا الجهاد في سبيل الله لفسدت الأرضُ ببقاء الكفر والضلال، قال الله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]؛ أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين لفسدت الأرضُ بالظلم والطغيان والمعاصي والعذاب، فمن فضلِ الله على جميع الناس ورحمتِه بهم أنه يدفع أهلَ الباطل بأهلِ الحق؛ ولهذا شرع الجهادَ في سبيله رحمةً بعباده، والله أحكم الحاكمين، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
أيها المسلمون، من أعظمِ مقاصدِ الجهادِ في الإسلام تخليصُ الناسِ من الظلم، ونشرِ العدلِ بينهم، وتخليصُ المستضعفين، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75]، فالجهادُ في سبيل الله تطهيرٌ للأرض من الظلمِ والعدوانِ والغدرِ والخيانةِ والإثم، وبسطٌ للأمنِ والسلام، ونشرٌ للرأفة والرحمة، وفي الجهاد إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وأعظمُ ذلك أن يُعطى الخالقُ حقَّه من العبادة، فيُعبدُ وحده لا شريك له، فمن أبى أن يُعطي الخالق حقَّه، بل وقاتل من يدعو الناس إلى إعطاء الخالق حقَّه، وصدَّ الناس عن دينِه وعبادته؛ فهو أظلم الناس، ومن الرحمة بالناس أن يُزال هذا الطاغوتُ الذي يحول بينهم وبين عبادة خالقِهم، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].
أيها المسلمون، قال علماءُ التاريخِ والسيرة: لم يكن من عادةِ العربِ في الجاهلية أن يخضعوا لأحد مهما كان الأمر، وقد طالت بعضُ حروب قبائل العرب أربعين عامًا أو مائة عام، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام قاتل كفارَ العرب بأسلوبٍ حكيمٍ، حتى فتح قلوبهم قبل أن يفتح بلادهم، ومجموعُ من قُتِل من المسلمين والمشركين واليهود والنصارى في جميع الحروب النبوية في حدود ألف قتيلٍ فقط، في مدة لا تزيد على ثمانية أعوام، وفي هذه الفترة القصيرة، وبهذا القدر القليل من الدم بسط النبي صلى الله عليه وسلم الأمن والسلام في أرجاء الجزيرة العربية، فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الحرب سبيلًا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، وسبيلًا لنصرة المظلومين، وإقامة العدل بين الناس أجمعين.
أيها المسلمون، وليس المقصود من جهاد الغزو إكراهُ الكفار على اعتناق الإسلام، وإنما تبلِيغُهم الإسلام، وقتالُ كلِّ من يحول بينهم وبين اختيار الإسلام من أئمة الكفر الذين يصدون أتباعهم عن اختيار دين الله الذي لا يرضى من عباده سواه، فمن اختار طريق الإسلام فقد فاز فوزًا عظيمًا، وله الخير والعزة في الدنيا قبل الآخرة، وله الجنةُ في دار الخلود، ومن اختار طريق الكفر فقد خسر خسرانًا مبينًا، وله الذلة في الدنيا، وله نارُ جهنمَ يوم القيامة.
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] قال المفسرون: أي: قاتلوا الكفار في حال قوِّتِكم حتى لا يكون شركٌ ظاهرٌ، ويكون دينُ الله هو الظاهرُ العالي على سائر الأديانِ الباطلة، فإن انتهى الكفارُ عما هم فيه من الشرك وقتالِ المؤمنين فكُفُّوا عنهم، فإنَّ من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا يُقاتَل إلا من قاتل المسلمين دون مَنْ سالمهم وعاهدهم، وأعرض عن قتالهم.
أيها المسلمون، الجهاد في الإسلام حربٌ دينيةٌ مشروعةٌ، وهي أنقى الحروبِ في تاريخ البشرية من جميع النواحي: من ناحية الهدف، ومن ناحية الأسلوب، ومن ناحية الشروط والضوابط، ومن ناحية النتائج والآثار، وكلُّ قتالٍ يخالف تعاليمَ الإسلام، فالإسلام منه بريء، كالقتال في الفتنة بين المسلمين أو القتال من أجل المصالح الدنيوية؛ ولذلك يُذكِّرنا الله في آيات الجهاد أن يكون الجهادُ جهادًا في سبيله.
أيها المسلمون، ثبت في الحديث الصحيح عن بُريدَة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريَّةٍ أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا [أي: لا تأخذوا من الغنيمة قبلَ قسمتِها]، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا [أي: لا تُشَوِّهُوا قتلى المشركين بقطع بعض أعضائهم أو حرقهم ونحو ذلك]، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ،… فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ».
ففي هذا الحديث أن الكفار يُدعون في جهاد الغزو إلى هذه الخصال الثلاث قبل قتالهم:
1- الإسلام، فيكونون مسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم.
2- الجزية، وهي مالٌ يدفعه الكفار للمسلمين مع بقائهم على دينهم، وعلى المسلمين حمايتُهُم، والعدل بينهم، وكف الأذى عنهم.
3- القتال، فيقاتلهم المسلمون إن استكبروا عن قبول دين الله، وأبوا أن يدفعوا الجزية.
أيها المسلمون، لولا الجهاد في سبيل الله لضاع الدينُ الحق، وانتشر الشرك والباطل، فالصراع حتميٌّ بين الحق وأهله من جهة، والباطلِ وأهله من جهة أخرى، وهذه سُنَّةٌ إلهيةٌ لا تتخَلَّف، ووقائعُ التاريخِ القديمِ والحديثِ شاهدةٌ بذلك، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تبارك وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39 – 41].
اللهم فقِّهنا في الدين، وعلِّمنا كتابَك وسُنَّةَ نبيِّك، وحقِّق التوحيدَ في قلوبنا، وارزقنا الإخلاصَ في أعمالنا، اللهم ألِّف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتَهم على الحق المبين، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان يا أرحم الراحمين، اللهم هيِّئ الأسباب لتحرير المسجد الأقصى من اليهود الغاصبين، اللهم عليك بجميع الكفار الظالمين المعتدين، الذين يَصُدُّون الناس عن دينك، ويُكذِّبون رُسُلك، ويقاتِلون أولياءك، اللهم اجعل عليهم رِجزك وعذابك، اللهم أَنزِل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 85، 86]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة: 4، 5].
اللهم صلِّ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِ محمد، والحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
____________________________________________
الكاتب: د. محمد بن علي بن جميل المطري
Source link