«مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهوديّ مقابل شيءٍ من الشعير»
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
حال الدنيا وزينتها تبهر العيون المفتونة، وتروع العيون الخاشعة من الوقوع الفتنة.
خطاب الدنيا وطالبوا قربها مذبوحون تحت قدميها عبر التاريخ، وملوك الآخرة عبروا من أمام باب الدنيا ولم يأبهوا بها، بل حاول مرضى القلوب أن ينالوا ما في أيديهم من لعاعها اليسير الذي ارتضى الصالحون به ليقيموا فقط أمر دينهم.
تدبر وتأمل أن أهل الغروراضطروا خليل الرحمن للكذب تارة في ذات الله حتى يثبت لهم دناءة اعتقادهم وترة في سبيل الحفاظ على النفس والعرض، هذا وهو خليل الله وحبيبه، ولو كانت الدنيا ذات قيمة ما طواها عن أحبابه ولا حجب قلوبهم عنها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ «أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ :لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، قَطُّ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ قَوْلُهُ : إِنِّي سَقِيمٌ ، وَقَوْلُهُ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أحْسَنَ النَّاسِ ، فَقَالَ لَهَا : إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ، إِنْ يَعْلَمْ أنَّكِ امْرَأتِي ، يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ ، فَإِنْ سَألَكِ فَأخْبِرِيهِ أنَّكِ أخْتِي ، فَإِنَّكِ أخْتِي فِي الإسْلاَمِ ، فَإِنِّي لاَ أعْلَمُ فِي الأرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ ، فَلَقَا دَخَلَ أرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أهْلِ الْجبَّارِ، أتَاهُ فَقَالَ لهُ : لَقَدْ قَدِمَ أرْضَكَ امْرَأةٌ لاَ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تَكُونَ إِلاَّ لَكَ ، فَأرْسَلَ إِلَيها فَأتِيَ بِهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى الصَّلاَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقُبضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللهَّ أنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلاَ أضُرُّكِ ، فَفَعَلَتْ ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الأولَى، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ ، فَفَعَلَتْ ، فَعَادَ، فَقُبِضَطْ أشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الأولَيَيْنِ ، فَقَالَ : ادْعِي اللّهَ أنْ يُطْلِقَ يَدِي ، فَلَكِ اللهَّ أنْ لاَ أضُرَّكِ ، فَفَعَلَتْ ، وَأطْلِقَتْ يَدُهُ ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ إِنَّمَا أتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ ، وَلَمْ تَأْتِنِي بإِنْسَانٍ ، فَأخْرِجْهَا مِنْ أرْضِي ، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، قَالَ : فَأقْبَلَتْ تَمْشِي ، فَلمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ انْصَرَفَ ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ ؛ قَالَتْ : خَيْرًا، كَفَّ الله يَدَ الْفَاجِرِ، وَأخْدَمَ خَادِمًا.قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ : فَتِلْكَ أمُّكُمْ ياَبَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» . [أخرجه البخاري 4/171(3357) و\”مسلم\” 7/98 ] .
لو أحببت أن تعرف قيمة الدنيا وزخرفها فتأمل معي حال الحبيب صلى الله عليه وسلم:
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا ، وأقلهم رغبة فيها ، مكتفياً منها بالبلاغ ، راضياً فيها بحياة الشظف ، ممتثلاً قول ربه عز وجل : {{ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى}} (طه : 131) ، مع أن الدنيا كانت بين يديه ، ومع أنه أكرم الخلق على الله ، ولو شاء لأجرى له الجبال ذهباً وفضة .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن خيثمة أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك ، ولا نعطي أحداً من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله ، فقال : اجمعوها لي في الآخرة ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : {{تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا }} (الفرقان : 10) ، وخُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملِكاً نبياً أو عبداً رسولاً ، فاختار أن يكون عبداً رسولاً .
وأما حياته صلى الله عليه وسلم ومعيشته فعجب من العجب ، يقول أبو ذر رضي الله عنه : «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة ، فاستقبلَنا أحدٌ ، فقال : ( يا أبا ذر : قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا ، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا شيئاً أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ، ثم مشى فقال : إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وقليل ما هم )» . [رواه البخاري ] ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم 🙁 « اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا – وفي رواية – كفافا» ) ، و «دخل عليه عمر رضي الله عنه يوماً ، فإذا هو مضطجع على رمالٍِ وحصيٍر ليس بينه وبينه فراش ، وقد أثّر في جنبه ، قال عمر : فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر ، فقلت : ادع الله فليوسع على أمتك ، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله ، فقال : ( أوَفي شك أنت يا ابن الخطاب ، أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)» ، وكان يقول : « (ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها )» ، وكان فراشه صلى الله عليه وسلم من الجلد وحشوه من الليف .
وأما طعامه فقد كان يمر عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال ، ثلاثة أهلة ، وما توقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، وإنما هما الأسودان التمر والماء ، وربما ظل يومه يلتوي من شدة الجوع وما يجد من الدَّقل – وهو رديء التمر – ما يملأ به بطنه ، وما شبع صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز برٍّ حتى قبض ، وكان أكثر خبزه من الشعير ، وما أُثر عنه أنه أكل خبزاً مرقّقا أبدا ، ولم يأكل صلى الله عليه وسلم على خِوان – وهو ما يوضع عليه الطعام – حتى مات ، بل إن خادمه أنس رضي الله عنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبزٍ ولحم إلا حين يأتيه الضيوف .
ولم يكن حاله في لباسه بأقل مما سبق ، فقد شهد له أصحابه رضي الله عنهم بزهده وعدم تكلّفه في لباسه وهو القادر على أن يتّخذ من الثياب أغلاها ، يقول أحد الصحابة واصفاً لباسه : «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلّمه في شيء فإذا هو قاعد وعليه إزار قطن له غليظ» ، ودخل أبو بردة رضي الله عنه إلى عائشة أم المؤمنين فأخرجت كساء ملبدا وإزارا غليظا ، ثم قالت : «قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الثوبين » ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية» .
وإن المرء ليقف متعجبا أمام ما يذكره علماء السير من وصفٍ لبيوت النبي صلى الله عليه وسلم وقلة متاعها ، فلم يكن فيها شيءٌ يملأ العين من الأثاث ونحوه ، وما ذلك إلا زهداً في الدنيا وإعراضاً عنها.
ولم يترك صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة ، قالت عائشة رضي الله عنها :” «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍّ لي ، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ » ” ، و «مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهوديّ مقابل شيءٍ من الشعير» (مستفاد من مقال زهد النبي صلى الله عليه وسلم: الشبكة الإسلامية) .
نصيحة أخيرة:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ} [فاطر]
فلا تغرنك الدنيا وزينتها….. وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها…. هل راح منها بغير الحنط والكفن
خذ القناعة من دنياك وارضَ بها…. لو لم يكن لك إلا راحة البدن
يا نفس كفي عن العصيان… واكتسبي فعلا جميلا لعل الله يرحمني
يانفسُ ويحكِ توبي واعملي حسنا… عسى تُجازين بعد الموت بالحسنِ
أبو الهيثم
Source link