استَحيوا منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ ، قُلنا : يا رسولَ اللَّهِ إنَّا لنَستحيي والحمد لله ، قالَ : ليسَ ذاكَ ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ ، وما وَعى….
عن عبد الله ابن مسعود قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ««استَحيوا منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ ، قُلنا : يا رسولَ اللَّهِ إنَّا لنَستحيي والحمد لله ، قالَ : ليسَ ذاكَ ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ ، وما وَعى ، وتحفَظَ البَطنَ ، وما حوَى ، ولتَذكرِ الموتَ والبِلى ، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا ، فمَن فَعلَ ذلِكَ فقدَ استحيا منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ» » [رواه الترمذي]
أيها الإخوة الكرام: قبل أسبوع من يومنا هذا كنا نتحدث ونقول : ليس في هذا العالم شيء هو أعز أو أكرم أو أغلى أو أنفس عند الله تعالى من الإنسان المؤمن ، ما في الوجود أغلى ولا أكرم ولا أطيب ولا أعظم حرمة عند الله تعالى من المؤمن..
وفي آخر الحديث جعلنا نقول: إذا كان الإيمان هو سبب محبة الله تعالى وإكرامه لك فعليك ان تعمل على تثبيت إيمانك وتجديده وترميمه، وليس فيما أري شيء أمضى في صيانة الإيمان وحراسته وتجديده وترميمه من الحياء.. أن تستحي من الله تعالى في السر والعلن..
عن يعلي ابن أمية: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يَغْتَسِلُ بالبَرازِ ، فصَعِدَ المنبرَ ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قال :«إن اللهَ عزَّ وجلَّ حليمٌ حييٌّ ، سِتِّيرٌ ، يُحِبُّ الحياءَ ، والسِتْرَ ، فإذا اغتسَلَ أحدُكم فلْيَسْتَتِرْ»
والحياء أيها المؤمنون على أنواع وأقسام:
فمن الحياء حياء من الناس، ومن الحياء حياء من النفس، ومن الحياء حياء من الملائكة الكرام الكاتبين، لكن يبقى أعلى وأرقى درجات الحياء هو الحياء من الله عز وجل وإن شئت فقل المراقبة وإن شئت فقل الخشية ولا بأس فكلهم من عائلة واحدة..
قال الله تعالى: {﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾}
الحياء شعبة من شعب الإيمان وزاوية من زواياه قال النبي عليه الصلاة والسلام «« الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ» »
الحياء صيانة النفس والعرض عن كل ما يُستقبح من القول والعمل..
الحياء هو الحارس الأمين على الأخلاق والدين، الحياء هو الجدار العازل بين المؤمن وبين الوقوع في معصية الله عز وجل..
وإذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *خلوت ولكن قل علي رقيب.
ولا تحسبن الله يغفل ساعة* ولا أن ما تخفي عليه يغيب.
الحياء يعصم صاحبه أن يأكل حراماً، الحياء يمنع صاحبه أن يأتي الفواحش، الحياء يمتع صاحبه أن يطمع فيما لا يحل له، وفي الحياء نجاة العبد في الدنيا والآخرة ..
مر رجل بامرأة في فلاة من الأرض فراودها عن نفسها فقالت له اذهب فلنظر هل يرانا من أحد فذهب غير بعيد ثم رجع فقال لا يرانا أحد، فليس هنا إلا أن وأنت وهذه الكواكب قالت ويلك وأين مكوكبها فذهب ولم يتعرض لها..
الحياء من الله عز وجل يثمر في النفس شعوراً قوياً أن الله تعالى معك أن الله تعالى يرى حالك ويسمع مقالك ، وأنه سبحانه وتعالى حسيب ورقيب ..
{﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَآ أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا۟ ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا۟ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ﴾}
ومن بين الأحاديث المقبولة عن بني إسرائيل والتي صحت نسبتها إليهم وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم والتي أسست لحياء الإنسان من الله تعالى حديث الثلاثة أصحاب الغار..
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ، رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: « «انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نفر مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرةٌ مِنَ الْجبلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا : إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا الله تعالى بصالح أَعْمَالكُمْ » .
قال رجلٌ مِنهُمْ : اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرانِ ، وكُنْتُ لاَ أَغبِقُ قبْلهَما أَهْلاً وَلا مالاً فنأَى بي طَلَبُ الشَّجرِ يَوْماً فَلمْ أُرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا فَحَلبْت لَهُمَا غبُوقَهمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِميْنِ ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقظَهمَا وَأَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِى أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ وَالصِّبْيَةُ يَتَضاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمى فَاسْتَيْقظَا فَشَربَا غَبُوقَهُمَا . اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَة ، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ .
قال الثاني: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانتْ لِيَ ابْنَةُ عمٍّ كانتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ » وفي رواية : « كُنْتُ أُحِبُّهَا كَأَشد مَا يُحبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءِ ، فَأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّى حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِى فَأَعْطَيْتُهِا عِشْرينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا ففَعَلَت ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا » قَالتْ : اتَّقِ الله ولا تَفُضَّ الْخاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، فانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِليَّ وَتركْتُ الذَّهَبَ الَّذي أَعْطَيتُهَا ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعْلتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ ، فانفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا .
وقَالَ الثَّالِثُ : اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجرَاءَ وَأَعْطَيْتُهمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذي لَّه وذهب فثمَّرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجائنى بعد حين فقال يا عبد الله أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي ، فَقُلْتُ : كُلُّ مَا تَرَى منْ أَجْرِكَ : مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَم وَالرَّقِيق فقال: يا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتهْزيْ بي ، فَقُلْتُ : لاَ أَسْتَهْزيُ بك، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْه شَيْئاً ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ ، قال النبي عليه الصلاة والسلام فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فخرَجُوا يَمْشُونَ » متفقٌ عليه.
هذا الحديث وما فيه من خوارق العادات والكرامات ما هو إلا نتيجة لحياء العبد من الله سبحانه وتعالى..
فالأول: أخذه الحياء من الله أن يعق والديه..
والثاني: أخذه الحياء من الله تعالى أن يقع في الحرام والله تعالى رقيب وحسيب..
وأما الثالث: فأخذه الحياء من الله تعالى أن يأكل عرق الأجير فكان الحياء طوق نجاة الجميع..
ذلك لتعلموا أنه ما من توفيق في الحياة وما من نجاح أو فلاح إلا وأحد أسبابه حياء العبد وخشيته لله رب العالمين..
نستحي من الله تعالى لأنه الخالق العظيم سبحانه وتعالى، صاحب النعم، السميع البصير الرقيب الحسيب الشهيد الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا خشيته وان يمن علينا بمحبته إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن الحياء وثمرته وبركته بقي لنا أن نقول : في سورة الرحمن آية عظيمة يقول فيها الحق سبحانه وتعالى {(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) }
من بين التفاسير التي وردت لهذه الآية تفسير مجاهد رحمه الله قال {(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)}
هو الرجل يخلو بمعصية الله فيذكر مقام الله فيدع المعصية في السر كما يدعها في العلن خوفاً وحياءً من الله عز وجل..
من الجميل أن يستحي الإنسان من نفسه ومن الجميل أن يستحي الإنسان الملائكة ومن الناس لكن تبقى أعظم أنواع الحياء (حياء الإنسان من الله سبحانه وتعالى)
فتستحي من الله أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك قال الله تعالى {{وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ ۚ} }
تستحي من الله أن يقابلك بالإحسان والستر والإنعام ثم تقابله أنت بالفجور والعصيان.
تستحي من الله أن يمن عليك بما لا تستطيع حصره من النعم ثم تتقاعس أنت عن شكر النعمة..
تستحي من الله أن تراقب الناس وتستخفى منهم بالذنب، وإذا خلوت بارزت ربك بمعصيته من غير أن تستحي من نظره إليك وكأنك تجعله أهون الناظرين إليك : {{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وهو معهم}}
. أعظم الحياء أن تستحي من الله تعالى في السر كما تستحي في العلن جاء سَعِيد بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ ذات يوم فقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي، قَالَ: «“أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ”» . [رواه الطبراني]
ولذلك قال بعض السلف : خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك.
نسأل الله العظيم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
Source link