منذ حوالي ساعة
إن المسجد في الواقع هو امتداد طبيعي لبيت الأسرة، وهو رأس المؤسسات التربوية والاجتماعية وأقدمها
إن المسجد في الواقع هو امتداد طبيعي لبيت الأسرة، وهو رأس المؤسسات التربوية والاجتماعية وأقدمها؛ لذلك كان أول ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة أن بنى المسجد؛ فهو الذي يوحد صفوف المسلمين في إطار أخوي اجتماعي واحد، يستطيع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهَ وتوحيدَ العمل التربوي للجماعة الناشئة، وباتحاد مصدر المعرفة والتلقي تصبح العملية التربوية أسهل كثيرًا، وأكثر فاعلية، وهذا ما حدث بالفعل مع جيل الصحابة رضي الله عنهم، والمتتبع لنشأة المساجد في دولة الإسلام يجد أن المسجد قد تولى أمر العملية التربوية لمدة تصل لأكثر من ثلاثة قرون، حتى ظهرت الحاجة لإنشاء مدارس تستوعب الأعداد الكبيرة للدارسين.
إن المسجد يمكن أن يؤدي دوره الريادي مرة أخرى في حياة المسلمين، وتربية الأبناء روحيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا إذا عادت للمسجد أهميته مرة أخرى، ومكانته في قلوب الناس، فلا ننسى دور الحرمين الشريفين في إخراج العلماء الأفذاذ الذين أثروا الحياة الإنسانية بشتى أنواع المعارف، ودور الجامع الأموي، وجامع المنصور ببغداد، وغير ذلك كثير، وعلى هذا فالدور التربوي للمسجد يمكن تقسيمه إلى عدة أقسام:
1- التربية الإيمانية.
2- التربية الأخلاقية.
3- التربية النفسية.
4- التربية العقلية (علمية/ عملية).
5- التربية الاجتماعية.
♦ ♦ ♦
(1) دور المسجد في التربية الإيمانية:
هذا هو الدور الأكبر للمسجد، وميدان التطبيق العملي لدور الأب والأم في البناء الإيماني للولد؛ فالمسجد هو مكان أداء الصلوات التي هي أساس الدين وعموده، وفيه يتعلم الولد كيفية الإخلاص لله عز وجل، ومناجاته عز وجل، يتعلم كيفية التوحيد وتطبيقه العملي بالإخلاص والخشوع لله، ويتعلم في المسجد حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، ومنذ قديم الأزل -وحتى وقتنا الحالي- يعد المسجد هو أفضل مكان لتلقي العلوم الدينية: بدءًا من حفظ القرآن، والسنة، وعلوم الشريعة، يرى الولد فيها الراشدين وهم يقومون بالصلاة والذكر والاعتكاف والدعاء؛ فيخشع قلبه، وتهتز جوارحه لهذه البقعة الطاهرة، ويرتبط قلبه بالمسجد كمكان لتطهير النفس، والقرب من الله.
(2) دور المسجد في التربية الأخلاقية:
إن للمسجد حرمة وصيانة عن كل ما يؤذي الناس والمصلين من اللغو الباطل والمشاحنات؛ فالمسجد قد خصص للعبادة والذكر والتعلم، فلا يصلح لمنازعات الدنيا، ومدافعات الأهواء والأغراض؛ لذلك كانت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تحض على احترام المسجد وقدسيته؛ ليقوم المسجد بدوره الغير مباشر في تهذيب أخلاق الناس؛ ففي الحديث: « (من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا)» [1] وفي الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، أو ينشد فيه شعر[2]، وكذلك يحرم الكلام فيها بصوت عال يشوش على المصلين والقراء، وفي الحديث: « (ألا إن كلكم مناجٍ ربه؛ فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)» [3]؛ فجملة الأخلاق المذمومة عرفًا -وإن لم تكن مذمومة شرعًا- خارج المسجد؛ فداخله مذمومة شرعًا وعرفًا، فالطفل يرى في المسجد الجميع يتصف بالأخلاق الطيبة، والهدوء والسكينة، كما أن دروس العلم وخطب الجمعة تعلم الأطفال مكارم الأخلاق، والاحترام لأهل العلم، وكون الطفل يعلم أن الملائكة يأتون إلى المساجد يجعل قلب الطفل ساكنًا هادئًا، مطمئنًا تجاه المسجد وأهله.
(3) دور المسجد في التربية النفسية:
إن قلب الصبي الصغير جوهرة نقية صافية، وفطرته بيضاء: لا دخل فيها ولا لوث، نفسه على أصل خلقها تتوق للحق وللراحة الوجدانية، وأكثر الأماكن التي تحقق الراحة النفسية والصفاء الروحي مساجد الله؛ حيث الهدوء والسكينة والرحمة، وملائكة الله عز وجل التي تحف مجالس الذكر.
وللمسجد تأثير عجيب في قلب المسلم: يدخله وهو مثقل بالهموم والأحزان ومشاغل الدنيا، فما إن يقف بين يدي الله عز وجل خاشعًا متذللًا حتى ينسى كل ذلك، ويتذكر عظمة الله عز وجل، وأصل العلاج النفسي الخشوع لله عز وجل أثناء الصلاة، وعندما يرى الصبي هذا الجو الروحي يحدث له السكون النفسي بطريق الإيحاء مما يراه، ولعل السبب الرئيس في عدم تأثر الأطفال بجو المساجد في هذه الأيام هو رفع الخشوع من المصلين؛ قال عبادة بن الصامت: لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع: يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعًا[4].
(4) دور المسجد في التربية العقلية (العلمية):
المسجد هو روضة العلم والتعلم بدءًا من كتاب الله عز وجل إلى سائر العلوم الشرعية، حتى العلوم الدنيوية، ولقد كان المسجد هو المسؤول عن تخريج وإعداد الأعلام في كل المجالات، حتى القرن الخامس الهجري، ولعل تحفيظ القرآن في المسجد أساس إتقان سائر العلوم الأخرى، يقول العبدري في كتابه المدخل: (أفضل مواضع التدريس هو المسجد)[5]، كذلك في المسجد يتعرف الفتى على أحوال العالم الإسلامي: ما يحدث لإخوانه في شتى بقاع الأرض، وكيف يكيد أعداء الإسلام له، فالطفل يجد في المسجد الجامعة الكبيرة والملاذ الآمن لعقله وفكره ووجدانه.
(5) دور المسجد في التربية الاجتماعية:
إن المسجد له خاصية فريدة تميزه عن سائر المؤسسات الاجتماعية في جانب التربية الاجتماعية؛ حيث إن له خاصية التجمع اليومي لشتى طبقات المسلمين خمس مرات في اليوم الواحد؛ فالمسجد حقًّا موسوعة اجتماعية من الطراز الأول؛ حيث يتعرف الطفل فيه على جيرانه، ونظرائه في السن من أهل الحي والمناطق المجاورة، ويتعود الطفل فيه على الاختلاط برفقة صالحة طيبة، حيث لا يحافظ على الصلاة إلا تقي صالح؛ فيجتمع للمسجد جانب التجمع والانتقاء في آن واحد، هذا لا يوجد في أية مؤسسة تربوية أخرى، ولقد كان المسجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مكانًا لإيواء الفقراء والغرباء -وهم أهل الصفة- ومكانًا لعلاج جرحى الحروب، وتوزع فيه أموال الصدقات والزكاة.. فللمسجد دور فعال ومتواصل في تربية النشء على الاجتماع والتواد والتراحم والتلاحم في نسيج واحد.
[1] “مسلم” المساجد (568).
[2] “أبو داود” الصلاة (1079).
[3] “أبو داود” الصلاة (1332)، “أحمد” (1468).
[4] “الترمذي” العلم (2653).
[5] “أصول الفكر التربوي” لعباس محجوب ص (271).
Source link