أصول الزهد وضوابطه – طريق الإسلام

الحمد لله الذي بصَّر من أحبَّ بالحقائق فزهِدوا في هذه الدار، واجتهدوا في مرضاته، وتأهَّبوا لدار القرار، وصلِّ اللهم على قدوة الزاهدين محمدٍ، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الأبرار؛ أما بعد:

مدخل في تعريف الزهد وبيان أقسامه وضوابطه:

فقد تنوعت مقولات العلماء في تعريف الزهد، ومن أوسع الكتب نقلًا لأقوال السلف في حدِّه كتابُ «الزهد وصفة الزاهدين» لابن الأعرابي أبي سعيد أحمد بن محمد البصري (ت: ٣٤٠هـ)؛ حيث نقل فيه زُهاءَ ستة وأربعين تعريفًا.

 

ومن أجمع تلكم التعريفات قول إبراهيم بن أدهم (ت: 162هـ)، وهو من فقهاء التابعين: “الزهد ثلاثة أصناف: فزهدٌ فرضٌ، وزهد فضل، وزهد سلامة، قال: فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهد في السلامة: الزهد في الشُّبُهات[1].

 

فأما زهد الفرض، فواجب؛ لأنه تركٌ لمحرَّم، وأما زهد الفضل، فمستَحَبٌّ وليس بواجب؛ إذ هو ترك لِما أحلَّ الله من المباحات، وترك المباح لا يجب، وما أحسن ما حدَّه به ابن تيمية؛ قال: “الزهد المشروع: ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة“؛ أي: ترك “فضول المباح التي لا يُستعان بها على طاعة الله”[2].

 

وأما زهد السلامة، فهو ترك الشُّبُهات، وهو دائر بين الوجوب والاستحباب، فما استلزم الحرام، فواجب الترك، وإلا فيُستحَبُّ تركه وَرَعًا.

 

فصل في قواعد زهد الفضل وضوابطه:

أولًا: زهد الفضل هو زهدُ اختيارٍ لا ترك اضطرار:

اعلم أن زهد الفضل لا يتأتَّى لأحدٍ إلا مع القدرة على التلذُّذ بالحلال، فهو زهدُ اختيارٍ لا ترك اضطرار؛ قال داود الطائي (ت: 165هـ): “الزهد من قَدَرَ فَتَرَكَ”[3]، وقيل لمالك بن دينار (ت: 123 هـ، 131 هـ): أنت زاهد؟ قال: “كيف أكون زاهدًا، ولي جُبَّة وكساء، فقال: إنما الزاهد عمر بن عبدالعزيز، أَتَتْهُ الدنيا فاغرةً فاها، فتركها”[4].

 

وقال بشر بن الحارث الحافي (ت:227 هـ) في زهد الفضل: “كانوا لا يأكلون تلذذًا، ولا يلبَسون تنعُّمًا، وهذا طريق أبناء الآخرة، والأنبياء والصالحين، ومَن بعدَهم، فمن زعم أن الأمر في غير هذا، فهو مغبون”[5].

 

وليعلم أن ترك المباحات لعدم القدرة عليها يُعَدُّ من خشونة العيش وشدته لا من الزهد، والمرء إنما يُؤجَر على ذلك، إذا أُلْفِيَ صابرًا راضيًا بقضاء الله محتسبًا.

 

ثانيًا: لا يُحمَد ترك العمل للدنيا لغير العمل للآخرة:

كُنْ على ذكر أن المرء لا يُؤجَر على ترك ما أحلَّ الله له من لذات الدنيا، إلا إذا فرغ نفسه لعمل الآخرة، وقد استحسن ابن الأعرابي قول أبي سليمان الداراني (ت: 215هـ): “ليس الزاهد من ألقى غمَّ الدنيا واستراح فيها، إنما تلك راحة، إنما الزاهد من ألقى غمَّها وتعِب فيها لآخرته”[6]، وقال مضاء بن عيسى الكلاعي (ت: 210 هـ): “إنما أرادوا بالزهد أن تفرُغ قلوبهم للآخرة”[7].

 

وقد جلَّى شيخ الإسلام ابن تيمية ما أرادا بقوله: “ذلك أن لذات الدنيا لا تُنال غالبًا إلا بنوع من التعب، فقد تترجَّح تارةً لذة الترك على تعب الطلب، وقد يترجح تعب الطلب على لذة الترك، فلا حمدَ على ترك الدنيا لغير عمل الآخرة، كما لا حمدَ لطلبها لغير عمل الآخرة”[8].

 

ثالثًا: لا يجوز لمن سلك طريق زهدَ الفضل أن يُحرِّم ما أباح الله:

قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].

 

وقال جل ذكره: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].

 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال حُلوة، من أخذه بحقِّه ووضعه في حقه، فنِعْمَ المعونةُ هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع»[9]، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((بعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خُذْ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني» ، فأتيته وهو يتوضأ، فصعَّد فيَّ النظر ثم طأطأه، فقال: «إني أريد أن أبعثك على جيش، فيُسلِّمك الله ويُغنِمك، وأزعَب لك من المال زعبةً صالحةً» ، قال: قلت: يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكني أسلمت رغبةً في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو،  «نعمَّا بالمال الصالح للمرء الصالح»[10].

 

وقوله: «أزعَب لك من المال زعبةً»: أقطع لك جزءًا من الغنيمة.

 

فإذا قيل: ما ضابط التوسع في المباحات؟

يُجاب بما قاله ابن تيمية: “الاشتغال بفضول المباحات هو ضد الزهد المشروع، فإن اشتغل بها عن واجب، أو بفعل محرم، كان عاصيًا، وإلا كان منقوصًا عن درجة المقرَّبين إلى درجة المقتصدين”[11].

 


[1] الزهد وصفة الزاهدين لابن الأعرابي، برقم: 12.

[2] مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 82) و(01/ 12).

[3] الزهد لابن الأعرابي، برقم: 9.

[4] الزهد لابن الأعرابي، برقم: 51.

[5] الزهد والرقائق للخطيب البغدادي، برقم: 83.

[6] الزهد لابن الأعرابي، برقم: 44.

[7] الزهد لابن الأعرابي، برقم: 16.

[8] مجموع الفتاوى (20 /146).

[9] متفق عليه، البخاري برقم: 6427، ومسلم برقم: 1054.

[10] مسند أحمد 90371، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه شعيب الأرنؤوط (تخريج أحاديث المسند: 20871)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 3/ 653).

[11] مجموع الفتاوى (01/ 12).

________________________________________________
الكاتب: غازي أحمد محمد


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

من خصائص اليوم الآخر – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة اليوم الآخر هو اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق ليحاسبهم بأعمالهم التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *