الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فمن المقرر في الشريعة الإسلامية أن المؤمن يعبد ربه شكرًا له على هدايته إليه، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به، والمؤمن لا يجرب اللهَ؛ فهو مؤمن بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومن ثم فلا ينقلب على وجهه عند مس الفتنة حتى لا يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى وراحة البال.
أما التوجه إلى الله بالعبادة، والدعاء والضراعة، فمما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به، والله- سبحانه- يفتح لعباده أبوابه لنتوجه إليه وندعوه، وقد كتب على نفسه الاستجابة لمن يدعوه، وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال عز وجلَّ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
فالدعاء هو إخلاص القلب لله، والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معيَّنة للاستجابة، أو تَخصيص وقت أو ظرف، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال، فالتوجُّه للدعاء هو محض فضل وتوفيق مِن الله تعالى، والاستجابة فضل آخر، والله تعالى حين يقدِّر الاستجابة يقدِّر معها الدعاء، فهما مُتوافقان مُتطابقان.
وعلى العبد أن يدعو ربه ولا يستعجله، فهو سبحانه يٌقِّدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم وهو الغني عن العالمين.
وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستعجال؛ ففي الصحيحَين عن أبي هُرَيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يُستجاب لأحدكم ما لم يعجَلْ، فيقول: قد دعوتُ فلا، أو فلم يُستجَب لي”، وفي رواية لمسلم: “لا يَزال يُستجاب للعبد ما لم يدْعُ بإثم أو قطيعة رَحِم، ما لم يستعجِل”، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: “قد دعوتُ وقد دعوتُ، فلم أرَ يَستجيب لي، فيَستحسِر عند ذلك ويدَعُ الدعاء”، وقوله: “فيَستحسِر”؛ أي: يَنقطع عن الدعاء.
فاستجابة الله تعالى لمن دعاه أمرٌ مِن وعد الله الذي لا يتبدَّل، ولكن الاستجابة تتنوَّع، فتقع بعين ما دُعِي به، أو بعوضه، أو بادِّخار الأجر، وقد يَختار الله تعالى له برحمته القائمة على الحكمة غير ما سأل، فيَدفع عنه من البلاء، وقد يدَّخر له في الآخرة الأجر والثواب، فهو سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من أنفسهم وأهليهم؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث؛ إما أن يُعجِّل له دعوته، وإما أن يدَّخرها في الآخرة، وإما أن يَصرف عنه من السوء مثلها”، قالوا: إذًا نُكثِر، قال: “الله أكثر”؛ رواه أحمد والحاكم.
ولكنَّ الإنسان خُلق عَجولًا يُبادر الأشياء، ويستعجل وقوعها، ويُريد تحقيق كل ما يخطر له وإن كان فيه هلاكه، أو ضرره وإيذاؤه، ولما كان الله تعالى يعلم ما يصلح لعبده كان الواجب على العبد أن يوكل الأمر كله لله فلا يتعجَّل قضاءه، فالإيمان ثقة وصبر واطمئنان، ولا يقطع رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة، فإنه سبحانه يحبُّ الملحين في الدعاء؛ لأنه من أعظم العبادة؛ لما فيه من الخضوع والافتقار، فكلُّ داعٍ يستجاب له ولكن تتنوع، والله تعالى أمرَنا أن ندعو الله – ونحن موقنون بالإجابة – وأن نحزِم المسألة؛ لأن الله لا يعجزه شيء، وهو على كل شيء قديرٌ، ولكنَّ الدعاء – وإن كان من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب – إلا أنه قد يتخلفُ عنه أثرُه؛ إما لضعفِه في نفسه؛ بأن يكون دعاءً لا يحبُّه الله؛ لِمَا فيه من العدوان، وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله، وجمعيَّته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرِّخو جدًّا؛ فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والظلم، ورَيْنِ الذُّنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة، والسهو، واللهو، وغلبتها عليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (8/ 192):
“الدُّعَاءُ فِي اقْتِضَائِهِ الْإِجَابَةَ، كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي اقْتِضَائِهَا الْإِثَابَةَ، وَكَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي اقْتِضَائِهَا الْمُسَبَّبَاتِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ الدُّعَاءَ عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ الْمَسْؤولِ لَيْسَ بِسَبَبٍ، أَوْ هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، لَا أَثَرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ؛ وُجُودًا وَلَا عَدَمًا، بَلْ مَا يَحْصُلُ بِالدُّعَاءِ، يَحْصُلُ بِدُونِهِ، فَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ؛ فَإِنَّ اللهَ عَلَّقَ الْإِجَابَةَ بِهِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، فَعَلَّقَ الْعَطَايَا بِالدُّعَاءِ تَعْلِيقَ الْوَعْدِ وَالْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: “إنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ، فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ؛ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَيْضًا؛ فَالْوَاقِعُ الْمَشْهُودُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُبَيِّنُهُ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ أَخْبَرَ – سُبْحَانَهُ – مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75]، وقَوْله – تَعَالَى -: {وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 78، 79]، وَقَوْلِهِ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقَوْله – تَعَالَى – عَنْ زَكَرِيَّا: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 80]، وَقَالَ – تَعَالَى -: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرِّ إذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وَقَالَ – تَعَالَى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 33 – 35]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَوْبَقَهُنَّ؛ فَاجْتَمَعَ أَخْذُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَعَفْوُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا، مَعَ عِلْمِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِهِ أَنَّهُ مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ؛ يَعْلَمُ الْمُورِدُ لِلشُّبُهَاتِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ، وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ – أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13]؛ فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ بِالْأَسْبَابِ الِاضْطِرَارِيَّةِ أَثْبَتُ، وَأَرْسَخُ مِنْ الْمَعَارِفِ الَّتِي يُنْتِجُهَا مُجَرَّدُ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ هُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ الْمَسْئُولِ، لَيْسَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا هُوَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
الْأَمْرُ هُوَ سَبَبٌ – أَيْضًا – فِي امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ، فَإِذَا كَانَ أَقْوَى مِنْهُ، دَفَعَهُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْبَلَاءِ أَقْوَى لَمْ يَدْفَعْهُ، لَكِنْ يُخَفِّفُهُ، وَيُضْعِفُهُ، وَلِهَذَا؛ أُمِرَ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالْآيَاتِ بِالصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ”. اهـ.
إذا تقرر هذا، فالواجب عليك الاستعانةُ بالصبر والصلاةِ؛ وقراءة القرآن بتأمل، وقطع الخطرات والاستعانة بالله والاستعاذة به سبحانه من نزغات والشيطان، وخطرات الشيطان؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 153]، إلى قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157].
فاللهُ سبحانه يعلم ضخامةَ الجُهدِ الذي تَقتضيه الاستقامةُ على الصراط المستقيم، وأنه يتطلَّب بقاءَ النفس مشدودةَ الأعصاب، مجنَّدة القُوَى، يَقِظةً للمداخل والمخارج؛ ومِن ثَمَّ كرَّر سبحانه ذِكْر الصبر في القرآن كثيرًا؛ لحاجة المؤمن له دائمًا، لا سيما حينما يَطول الأمدُ، ويشق الجهدُ؛ فقد يضعف الصبر ويتفلَّت أو ينفد، إذا لم يكن هناك زادٌ ومدَد مِن الطاعات الكِبار؛ ولذلك يقرن سبحانه الصلاةَ إلى الصبر؛ لأنها المعينُ الذي لا ينضَبُ، والزَّاد الذي لا ينفدُ؛ فهي تجدِّدُ الطاقة، وتزوِّد القلب؛ فيمتدُّ حبلُ الصبر ولا ينقطع، فالإنسانُ ضعيفٌ بطَبعِه، قويٌّ بربه إذا الْتَجَأَ للقوة الكبرى، لاستمدادِ العون حينما يثقل جهدُ الاستقامة على طريق الحقِّ؛ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((أَرِحْنا بالصلاة يا بلالُ))، قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، والخُشوعُ: الخضوعُ لله تعالى، والسكونُ والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح، وقال: صلى الله عليه وسلم: ((وجُعِلَتْ قرَّةُ عيني في الصلاة)).
فالقلبُ لا يفلحُ، ولا يصلح، ولا يتنعَّم، ولا يبتهِجُ، ولا يلتذُّ، ولا يطمئنُّ، ولا يسكن، إلا بعبادة ربِّه وحبِّه، والإنابة إليه،، والله أعلم,.
Source link