الغش في الامتحانات يرفع الأغبياء ويخفض الأذكياء

الغش في أي مجال من مجالات الحياة من أكبر المحرمات، وأعظم الزلات، وهو بلا أدنى شك جريمةٌ شرعية وأخلاقية وقانونية وإنسانية

ما رفَع الأُمم إلى أعلى عليين كالعلم، وما هوى بها إلى أسفل سافلين كالجهل، ولأجل العلم أنزَل الله جل جلاله الكتب، وأرسل الرسل، بل لأجل العلم خلَق الله عز وجل السماوات والأرض وما فيهن، تدبَّر معي قولَ الحق سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

 

وحسبُك هذه الآية دليلًا على منزلة العلم في الإسلام التي ارتقى بها إلى أرفع من منازل النجوم، ولهذا كان أول ما نزل من القرآن الكريم الأمر بالقراءة؛ قال عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5].

 

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»؛ (رواه ابن ماجه وأبو يعلى).

 

فالتعلم والتعليم فريضة إسلامية، بل هما أول فرائض الإسلام، وهما سبيل التقدم، وطريق التحضر في الدنيا، كما هما سبيل الفوز العظيم يوم الدين.

 

تسرُّب الغش إلى التعليم:

التعليم المغشوش يهوي بالأمة إلى ذيل قافلة الأُمم، ويصنع أمة متخلفة في سائر مجالات الحياة، وكلُّ من يساعد على الغش من المعلمين أو المتعلمين أو أولياء الأمور، فهو سبب مباشر في صناعة تخلُّف الأمة، وضياع مستقبلها، وتدمير حضارتها، ولقد عمِلت في حقل التعليم في مصر ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان، نصفها تقريبًا في التعليم قبل الجامعي، ونصفها الثاني في التعليم الجامعي، وقد رأيت صورًا للغش تفوق الحصر، وتبعث الحسرة في النفوس، وتُهيج الأشجان في القلوب، وذاك في مختلف مراحل التعليم قبل الجامعي والجامعي، حتى مرحلة الدكتوراه، بل حتى أبحاث درجة الأستاذية، وبعض وسائل الغش هذه تحتاج إلى عقول متفتحة، وأذهان متوقدة، وتفتقر في بعض الأحيان إلى عصف ذهنى لابتكار وسائل جديدة للغش لم تُعرف من قبلُ، ولو أن الطالب ادَّخر هذا المجهود الكبير لكان في عداد المتفوقين بجهد خالص وسعي مشكور، لكنها جرثومة الغش التى تسلَّلت إلى ميدان التعليم منذ قديم الزمان؛ لتدمِّر الدول، وتبيد الحضارات، وتغش الأمة في أعز وأغلى ما تَملِك، وهي الثروة البشرية، فقد نشرت مجلة الرسالة المصرية في العدد 884، والصادر في 12/6/1950م بعض الحوادث المفجعة للغش؛ منها أن طالبًا بكلية الطب أطلق الرصاص على لجنة الامتحان، وفي حادثة أخرى طالب كلية الآداب يعتدي على أستاذ منعه من الغش، وغير ذلك الكثير مما يندي له الجبين من صور للغش ضاربة في عمق الزمان، قد مضى عليها عقود طويلة، والمؤسف حقًّا أن وسائل الغش في ميدان التعليم تتنوَّع وتتطور بشكل مستمر مع مرور الأيام، وتعاقُب الأزمان، ويبتكر الغشاشون من المعلمين والمتعلمين وأولياء الأمور وسائلَ جديدة للغش كفيلة بصناعة التخلف في كل مجالات الحياة، وتجعل من العلم سائقًا للتخلف بدل أن يكون قائدًا للتقدم.

 

الغش في الامتحانات جريمة وخيانة:

الغش في أي مجال من مجالات الحياة من أكبر المحرمات، وأعظم الزلات، وهو بلا أدنى شك جريمةٌ شرعية وأخلاقية وقانونية وإنسانية، وأخطرُ أنواع الغش على الإطلاق هو الغش في الامتحانات، فهو أشدها حرمةً، وأعمقها أثرًا، وأكثرها خطرًا على مستقبل الأمة وحاضرها، فهو يقدِّم مَن حقُّه التأخر، ويؤخِّر مَن حقُّه التقدم، ويسوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وحسبُك بهذه دمارًا للأمم، وتأخيرا للدول؛ قال تبارك وتعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].

 

فإذا كان الغش في غرس الشجر، ورفع الحجر إثمًا عظيمًا وذنبًا خطيرًا، فالغش في بناء البشر، وصناعة الإنسان، وتزكية الوجدان، أشدُّ حرمة، وأقبح إثمًا، وأخطر جُرمًا؛ قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، والغش في الامتحان يصنع الموبقات، ويفجِّر المهلكات، فهو يجعل الصالح كالطالح، والعالم كالجاهل، والأبرار كالفجار، وهذه جرائمُ تذهب بالأمم إلى وهاد التخلف، ومهاوي الردى؛ قال جل جلاله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

 

والامتحانات أمانة، والعملية التعليمية برُمتها أمانة، والغش خيانة، وما أقبحها من خيانة؛ قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].

 

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن غشَّنا فليس منا)؛ رواه مسلم وابن حبان وغيرهما.

 

فالغشاش أيًّا كان موقعه قد خالف دين الإسلام مخالفةً خطيرة، واقترف واحدًا من أعظم الآثام، ومثله في الإثم كلُّ مَن عاون على الغش بأية طريقة، وبأية وسيلة؛ لأن الغش ينتج جاهلًا في ثوب عالم، وقد روت أسماء رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثَوبي زُور»؛ (متفق عليه).

 

قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: “وقوله: “كلابس ثوبَي زور”؛ أي كالذي قال الزور مرتين، وقول الزور من الكبائر”.

 

فالغش والإعانة عليه تزوير وكذبٌ وظلم، وهذه من أمهات الكبائر، ومن قبائح المحرمات، والغش حرام في كل مجالات الحياة بلا استثناء، وأشد هذه المجالات حرمةً، هو الغش في الامتحانات خاصة، وفي التعليم عامة؛ لأنه يغش الأمة في أعز وأغلى ما تَملِك، وهو الإنسان الذي جعله الحق سبحانه وتعالى سيدًا لهذا الكون، وسخَّر له ما في السماوات وما في الأرض؛ قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12].

 

فالحق سبحانه وتعالى سخَّر المخلوقات الكبار من الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم لخدمة هذا الإنسان الصغير، وليس الأمر مقتصرًا على ما سبق ذكره في هذه الآية، بل كل ما في السماوات وما في الأرض مسخَّر لخدم هذا الإنسان الضعيف الظلوم الجهول، قال تبارك وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].

 

وتسخيرُ هذه المخلوقات الكبار لخدمة هؤلاء المرَدة الصغار، دلالةٌ ظاهرة على أن الخالق سبحانه وتعالى جعل الإنسان سيدًا لهذا الكون، فالغش في الامتحانات خاصة، وفي مجال التعليم عامة، غشٌّ في بناء الإنسان الذي جعله الباري سيدًا لهذا الكون، وهذا ما يجعله أخطرَ أنواع الغش بلا ريب، وأشدَّها حُرمةً بلا شك.

 

الوهم القاتل:

تحريم الغش في الامتحانات أمرٌ مُجمع عليه بين العلماء، ولم يُخالف في ذلك أحد على الإطلاق، وبالرغم من هذا الوضوح التام، لا يستحيي الغشاشون من تسمية الأمور بغير اسمها؛ ليُحلوا ما حرَّم الله، فيقولون الغش في الامتحانات ليس حرامًا؛ لأنه تفريجٌ عن مكروب، وتيسيرٌ على مُعسر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن نفَّس عن مؤمن كُربة مِن كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كُرب الآخرة، ومن ستَر على أخيه المسلم ستَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه»؛ (رواه مسلم عن أبي هريرة).

 

وأقول: هذا كلام ليس من دين الإسلام، والقول بإباحة الغش في الامتحانات يَعدِل القول بإباحة السرقة، والغصب، والقتل، والخمر، وهذا تحليل لما حرَّم الله، وهي أخطر الجرائم في دين الله، وقد تنتهى بالمرء الى الارتداد عن دين الإسلام، فيكون مصيره جهنَّم وبئس المصير، والعياذ بالله تعالى.

______________________________________________
الكاتب: أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

من أقوال السلف في أشراط الساعة – فهد بن عبد العزيز الشويرخ

فمن رحمة الله عز وجل بعباده أن للساعة علامات وأشراط قبل وقوعها من أجل يستعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *