العلمانية وأخواتها أخطر فتن العصر

“العالم الإسلامي يُجرَّد من هُويته، يجرَّد من مرجعيَّته ومصادر تشريعه، ويُفصَل فيه دينُه عن دولته، ويُفصَل أخلاقه وقيمه عن دينه”.

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين؛ أمَّا بعد:

فإنَّ مِن فِتَنِ آخر الزمان التي أخبَر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا»؛ (رواه مسلم).

 

وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه»؛ (رواه البخاري).

 

من هذه الفتن العظيمة السعي الحثيث اليوم لإبعاد الناس عن دينهم، سواء ما يتعلق بالاعتقاد أو العبادة أو المعاملات أو الأخلاق، وهذه هي العلمانية التي تسعى اليوم على قدَمٍ وساق لفصْل دين الله عن حياة الناس، وهي دعوة للإباحية والانحلال، دعوة لإباحة الزنا والخمور والمجون والتعري، والتمرد على شرع الله وأمره، وأن يكون الدين فقط داخل جدران المسجد، كما هو الحال عند النصارى، أمَّا حياة الناس فتُسيَّر بالأنظمة والقوانين التي وضعها البشر، ولا تسيَّر بشرع رب العالمين، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162، 163]، وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل: 51 – 53].

 

وليس بغريب أن يصدر هذا من الكفار، لكنَّ المحزن والمؤسف أن يصدُر هذا من أناس يدَّعون الانتساب للإسلام، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: «لتتبعُنَّ سَنن من كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضَبٍّ تبِعتموهم» ، قالوا: يا رسول، «اليهود والنصارى؟ قال فمَن؟»؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

ولا شك أنَّ النَّاس بحاجة إلى من يُنظِّم حياتهم، وقد جاء شرع الله بتنظيم حياة الناس بطريقة عادلة ومتكاملة ونافعة ومتوازنة؛ سواء في العبادات أو المعاملات، كيف لا وهو شرع الله الكامل في علمه وقدرته وحكمته ورحمته، الخالق لكل الخلق، العالم بما يُصلِح خلقَه في دينهم ودنياهم، وأطول آية في القرآن آية المعاملات، لكنَّ العلمانية تريد صرف الناس من تنظيم حياتهم بشرع الله إلى تنظيم حياتهم بقوانين البشر التي لا تسلَم من خللٍ وخَطَلٍ، ونقصٍ وباطل، وجَور وفسادٍ في كثير من أحكامها، وقد قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة: 50].

 

ووالله ما عرف أولئك قدرَ شرع الله وسُموَّه، وعظمته وعدله ورحمته وطهارته، وشموله وأخلاقه وآدابه؛ قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام: 115]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].

 

ومن الدعاوى الباطلة أنَّ الإسلام هو السبب في تأخُّر المسلمين اليوم في الصناعات والعلوم العصرية، ولا أدري من أين جاء هذا المفهوم الخاطئ؟ مع أن الإسلام يأمُر بالعمل بالأسباب، ويأمُر بالجد والاجتهاد، وينهى عن العجز والكسل، وأنَّ اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا اليد التي تعطي وتمنح، والسفلى هي التي تأخذ؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليَغرسها»، والفسيلة: النخلة الصغيرة؛ أخرجه أحمد في “المسند”، وحسَّنه الألباني رحمه الله.

 

وإنَّما أعطى الإسلام الدنيا حقها بالعدل، وأعطى الدين والآخرة حقَّهما بالعدل، كما تقول الحكمة التي ذكرها العلامة صالح الفوزان في كلمة له عن العلمانية: “اعمَل لدنياك كأنَّك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غدًا”: «إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه»؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري.

 

والدنيا لها ولأهلها أجلٌ وتزول؛ قال الله عن مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}[غافر: 39]، مع الأخذ بنصيبنا من الدنيا؛ قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

 

وإنَّما نهى الإسلام فقط عن أي أمر يَضر الناس في عقيدتهم، أو عبادتهم أو أخلاقهم، أو معاملاتهم أو عقولهم أو صحتهم، فكلُّ المحرَّمات لا تَخرُج عن هذه الأمور، ومن الافتراء على علماء الشريعة أنَّهم يُحرمون كلَّ شيء، وهذا من الكذب الواضح، فعلماء الشريعة وأئمة الدين الذين يفتون النَّاس بشرع لا يحرِّمون إلا ما حرَّمه الله ورسوله، وهو ما يضر الناس في دينهم أو أخلاقهم أو عقولهم أو أبدانهم، وهي محرَّمات محصورة يَنفِر منها كلُّ عقلٍ سليم، وما عداها فهو الحلال، وهو الأصل؛ قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].

 

وهناك فِرية أخرى وهي أنَّ الإسلام انتشر بالسيف، وأنَّه دين القتل، وبما أنَّي أردت أن يكون المقال مختصرًا، فأكتفي بذكر آية واحدة؛ قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32].

 

فالإسلام انتشر بالعدل، وقبِلته وأقبلت عليه القلوبُ والعقول؛ لموافقته للعقول السليمة والفِطَر المستقيمة، ولم يستخدم القوة إلا عند وجود المعاندين الذين قاموا بصد ومنع انتشار الخير والهدى والنور، فكان لابد من ردْعهم، والحق لا بد له من قوة تَحميه، وإلا ضاع كما ضاعت فلسطين، وأهل الباطل يدافعون عن باطلهم بكل قوة، ويفرِضون باطلهم بالقوة، ثم يتَّهمون غيرهم بالإرهاب، أمَّا زعمهم أنَّ الإسلام هو السبب في تخلُّف المسلمين، فحتى تظهر الحقيقة، وأن الهدف هو محاربة شرع الله، عدد المسلمين اليوم مليار وثمانمائة مليون تقريبًا، لكن كم عدد المتمسكين بالدين والعاملين به؟ نسبة قليلة؛ كما قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: 13]، فهل عندما ابتعد الكثير عن العمل بشرع الله تقدَّمت دولنا في العلوم العصرية؟

 

والحقيقة أن السبب في تأخرنا ثلاثة أمور وهي:

1- تفرقنا.

2- محاربة الغرب لنا.

3- عدم العمل بالأسباب.

 

وهذه شهادات من غير المسلمين على أنَّ الإسلام دين العلم والمعرفة والعمل والتقدم:

1- يقول المفكر الفرنسي “جوستاف لوبون” في كتابه المعروف “حضارة العرب” – ترجمة “عادل زعيتر”: “لو أن العرب استولوا على فرنسا، إذًا لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا، مركزًا للحضارة والعلم؛ حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ، بل ويقرض الشعر أحيانًا، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم!”.

 

2- وقالت المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكة” – في كتابها المعروف: “شمس الله تشرق على الغرب” – انتشار المكتبات في العالم العربي والإسلامي: “نمت دُور الكتب في كل مكان نمو العُشب في الأرض الطيبة، ففي عام 891م يحصي مسافر عدد دُور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مائة، وبدأت كل مدينة تبني لها دارًا للكتب يستطيع عمرو وزيد من الناس استعارة ما يشاء منها، وأن يجلس في قاعات المطالعة ليقرأ ما يريد، كما يجتمع فيها المترجمون والمؤلفون في قاعات خصِّصت لهم، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلمية”.

 

 

وكتاب “شمس الله تشرق على الغرب” في النص الألماني معناه: نور الإسلام يضيء الحضارة الغربية، والكتاب مليء بأسماء مبدعين مسلمين عرب وغير عرب.

 

3- واقرأ هذا الكلام لحكيم روسي وهو يبيِّن أن هذا الدين فيه ما خدم الإنسانية، وقاد إلى الرُّقي والمدنية.

وقال تولستوي الحكيم الروسي: “ومما لا ريب فيه أن النبي محمدًا كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمةً جليلة، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برُمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنَح للسكينة والسلام وتؤثِر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عملٌ عظيم لا يقوم به إلا شخص أُوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام”.

 

4- وقال الدكتور النمساوي شبرك: “إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنَّه رغم أُميته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمَّته”.

 

5- وفي باب الطب والجراحة كان للمسلمين دورٌ لا يُنكر.

يقول الكاتب البريطاني هـ.ج. ويلز في كتابه “معالم تاريخ الإنسانية”: “وتقدموا في الطب أشواطًا بعيدة على الإغريق، ودرسوا علم وظائف الأعضاء، وعلم تدبير الصحة… ولا يبرَح كثيرٌ من طرق العلاج عندهم مستعملًا بين ظهرانينا إلى اليوم، وكان لجرَّاحيهم دراية باستعمال التخدير، وكانوا يُجرون طائفة من أصعب الجراحات المعروفة، وفي ذات الوقت التي كانت الكنيسة تحرِّم فيه ممارسة الطب انتظارًا منها لتمام الشفاء بموجب المناسك الدينية التي يتولاها القساوسة، كان لدى العرب علم طبي حقٌّ”؛ انتهى.

 

ويقول أيضًا: “كل دين لا يسير مع المدنية، فاضرب به عرض الحائط، ولم أجد دينًا يسير مع المدنية في جميع نواحيها سوى الإسلام، وثمة أسماء لامعة لعلماء مسلمين لا ينكر علمهم وتقدُّمهم إلا جاهلٌ أو معاند، مثل: ابن النفيس والزهراوي في الطب، وابن الهيثم في الرؤية والضوء، والخوارزمي في الرياضيات”.

 

وهذه الشهادات نقلتها لكتَّاب ومفكرين غير مسلمين، ومن دول شتى؛ حتى لا يقال تواطؤا على الكذب، نقلت هذه الشهادات من موقع الإسلام سؤال وجواب.

 

إذًا لماذا يسعى العلمانيون لطمْس الهُوية الإسلامية والقضاء على الأخلاق والآداب الإسلامية، هل الإسلام حرَّم صناعة الطائرات والسفن والصواريخ والسيارات، والتقدم في الطب والهندسة… حتى يحاربه العلمانيون وأذنابهم.

 

نعم هناك مفاهيم خاطئة أُلصقت بالإسلام والإسلام منها بريء، هذه يجب أن تحارب مثل: ولاية الفقيه عند الشيعة، ومثل: الخرافات التي عند الشيعة والصوفية، ومثل: الجماعات المتطرفة التي تسفك دماء الأبرياء، وتنشر الفوضى، وتشوِّه جمال الإسلام، والله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ويقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].

 

ومن الحقائق أن الغرب نجح في الصناعات والعلوم المعاصرة عندما تخلى عن الكنيسة التي كانت ضد العلم والصناعة والاختراع، والبقاء على الخرافات والمفاهيم الخاطئة والعقائد الفاسدة، والانزواء في زوايا الكنيسة، حتى حرَّموا الزواج على الرهبان، والله يقول عن الرسل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38].

 

بينما فشِل المسلمون عندما تركوا العمل بدينهم؛ لأنَّه جاء بكل خير في دينهم ودنياهم، وهناك سُنن كونية لا تحابي أحدًا، فمن عمل بالأسباب حصل على نتيجة ذلك، فالغرب عملوا واجتهدوا في العلم والصناعة والاختراع، فتقدَّموا على المسلمين في ذلك، وكان على المسلمين أن يقوموا بذلك ويدعوا الكسل وضياع الأوقات والأموال، فيما لا يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، والعجب أن العلمانيين لا يدعون الناس إلى الاستفادة من الغرب في العلوم النافعة، فما زال الناس يستفيد بعضهم من بعض في ذلك، ولكن يريدون أن نأخذ كل ما عند الغرب الذين وصلوا في الانحطاط إلى سنِّ قوانين لأعمال تترفع عنها غالب الحيوانات؛ كالزواج المثلي الذي هو اللواط، وقبله الزنا؛ بحيث صار كثيرٌ من الفتيان والفتيات من دولة إلى دولة لا يعرف مَن أسرته، ومَن أبوه وأمه، والحمد لله على نعمة الإسلام.

 

والمؤامرة الكبرى اليوم على الدول الإسلامية هي السعي المتواصل لفصل الدين عن حياة النَّاس، وهناك توجه غربي وهو أن تُسلم زمام الأوقاف والشؤون الإسلامية للصوفية؛ لأنَّ الغرب يرى أنَّ الصُّوفية أقرب شيء إلى وضع الكنيسة اليوم في الغرب، وهو الانزواء في المساجد، أو ما يسمونه بالرباط وإقامة الموالد والرقص الصوفي والطبل والغلو في الأولياء، وما عدا ذلك فهم عنه في مَعزلٍ، وقد صرَّح بعض قادة الصُّوفية في اجتماع لهم في السودان حضره كثيرٌ من كبار شخصياتهم، قال: إنَّهم اجتمعوا مع كبار المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية، وذكروا لهم أنَّهم لا يثقون بأحد من الجماعات الإسلامية سواهم، وهذا هو الذي فعلَتْه بعض الدول الإسلامية في انتسابها إلى العلمانية في نظامها، فقد سلَّمت إدارة الشؤون الإسلامية والأوقاف للصوفية.

 

وأرجو أن ننتبه للحقيقة التي ذكرناها سابقًا، وهي من الفروق الجوهرية بين المسلم وبين غيره، ألا وهي إقامة شرع الله في الأرض وعمارة الأرض في آن واحد، وهذا هو الكمال والخير والسداد والهدى والسعادة والرحمة للبشرية كلها في الدنيا والآخرة، وإلا وقع الخلل والفساد بحسب التفريط في ذلك.

 

ولا شك أن هدف العلمانية الأول هو تغييبُ شرع الله، وتغييبُ الإسلام من حياة الناس؛ لينتهي الأمر إلى إباحة الخمر والزنا والتعري، وإلى الزواج المثلي (اللواط)، بل وإلى الحكم بغير ما أنزل الله، وإلى سب الدين والرسول، ولا يُسمح لأحد بالاعتراض بحجة الحرية الشخصية وحرية التعبير وإلى آخره، مع أن الإسلام لا يتعارض أبدًا مع التقدم والصناعات والعلوم النافعة، ويستطيع المسلمون أن يقيموا دينهم ودنياهم معًا.

 

قال معالي الشيخ صالح آل الشيخ وزير الأوقاف والدعوة والإرشاد سابقًا في المملكة العربية السعودية في كلمة له عن خطر العلمانية: “العالم الإسلامي يُجرَّد من هُويته، يجرَّد من مرجعيَّته ومصادر تشريعه، ويُفصَل فيه دينُه عن دولته، ويُفصَل أخلاقه وقيمه عن دينه”.

 

وقال الشيخ صالح العصيمي عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية سابقًا في محاضرة له، وهو يتحدث عن خطر العلمانية، وأنها تعمل على قدمٍ وساق في مسْخ هُوية الأمة ومَحو خيريتها، وتسييرها وراء مبادئ صُنعت خارج مصادرها، وأُعدت لغير أهلها، فالعلمانية التي ناسبت بلادًا يَحتدم فيها الصراع بين الكنيسة والدولة والرب والإنسان، لا تناسب أمةً شرَّفها الله بالإسلام، وأكرمها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ووهَبها أكمل دين ونظام، وكذلك تسعى العلمانية إلى تنحية الشريعة بدعاوى مجحفة في سبيل تعطيلها؛ كدعوى جمود الشريعة، وعدم مواكبتها للحضارة، وأنها تدعو إلى العزلة والانحياز الذاتي، واضطهاد حرية الفكر، وتَحول دون الإبداع والرُّقي، وذكر من مفاسدها النظرة الإقصائية للغة العربية، وتهميشها بزعم عدم صلاحيتها لغةَ اتصال، وتغيير النظام الاجتماعي بتفكيك الأسرة، وزَحزحة سلطان الوالد والزوج، وإشاعة الفواحش بفتح فوضى العلاقات والاحتكاك البشري، والدعوة إلى تحرير المرأة نحو النمط الغربي.

 

وختامًا ما الذي يجب علينا؟

يجب علينا أن نقوم ببيان الحقيقة وبيان خطورة هذه المؤامرة التي هي أخطرُ مؤامرة اليوم على الإسلام والمسلمين، وتحذير الناس من ذلك، وكلٌّ بحسب مكانه وموقعه، فالعلماء في موقعهم والإعلاميون في موقعهم والمسؤولون في موقعهم، وغير هؤلاء كلٌّ بحسبه وما يُحسن، وبما عنده من الإمكانيات والقدرات والفرص، قبل أن تغرق السفينة، وقد قال الشاعر:

نرقِّع دنيانا بتمزيق ديننا   **   فلا ديننا يَبقى ولا ما نرقِّع 

 

صحيحٌ اللهُ حافظٌ دينه كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف: 8]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يَضرُّهم مَن خالفهم ولا من خذَلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

لكن يجب علينا أن نقوم بما يجب علينا، وأن نعمَل بأسباب حفظه في دولنا، والصحابة رضي الله عنهم ذبُّوا عن دين الله وحافظوا عليه، وحفِظوه لنا، وبذلوا لأجل حفظه النفس والنفيس، ولم يقُل أحدهم كما قال عبد المطلب في الجاهلية إن صح عنه: “أنا ربُّ إبلي وللبيت ربٌّ يَحميه”؛ لأنَّنا مأمورون بنُصرة دين الله والدفاع عنه والمحافظة عليه، بل إن عزتنا في الدنيا والآخرة مرتبطة بالدفاع عنه والعمل به، كذلك يجب علينا في هذه الأيام بالذات أن نحرِص على جمع كلمتنا على الحق والهدى؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وأن نكون كما قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10]، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمى»؛ (رواه مسلم).

 

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

ونترك ما يفرِّقنا ويُضعفنا من الظلم والمعاصي والبدع والباطل، وإلا حققنا للأعداء ما يريدونه، فقاعدتهم الخبيثة تقول: (فرِّق تسُد)؛ أي: تكون لك السيادة عليهم، والله قد حذرنا فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]؛ أي: قوتكم.

 

ولا شك أنَّ من الأمور المهمة التي نفتقدها اليوم: المرجعية الواحدة التي يرجع المسلمون كلهم إليها اليوم، سواء في الأمور الشرعية، وفهمُ الدين الفهم الصحيح الذي كان عليه السلف الصالح، أو الأمور السياسية، وهذه ستتحقق إذا سعينا جميعًا لوحدة الصف على الهدى والحق والرحمة، وليس بالضروري أن نحقِّق كل هذا في وقت واحد، فأنت تنتمي إلى أمَّة كبيرة في زمنها وعددها، فلئن مت قبل أن يتحقَّق كل الذي أردت، فغيرُك سيتم جهودك، فالمهم أن نعمل بالأسباب، وبما يجب علينا، وأن نكون ناصحين لديننا ولأمتنا، والله الهادي إلى سواء السبيل.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

من أقوال السلف في أشراط الساعة – فهد بن عبد العزيز الشويرخ

فمن رحمة الله عز وجل بعباده أن للساعة علامات وأشراط قبل وقوعها من أجل يستعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *