﴿وما يعدهم الشيطان إلا غرورا﴾

منذ حوالي ساعة

طول الأمل من أماني الشيطان ووساوسه؛ به يستدرج الإنسان ويُغويه ويُنسيه، وهو أول حيلة اتخذها لإغواء الإنسان وإيقاعه في المعصية

إن الإنسان بطبيعته البشرية يتمنَّى تحقيق رغباتٍ، والوصول إلى غايات خلال مسيرة حياته، وكلما تحققت له رغبة، أو وصل إلى غاية، ظهرت أخرى، ولا تنقضي ولا تنتهي، ويستمر الصراع بين هذه النفس البشرية وبين طموحاتها وأمنياتها وشهواتها؛ فيصل الإنسان إلى تحقيق بعضها أحيانًا ويعجز أحيانًا، وقد تختلف هذه الأمانيُّ من حيث أهميتها وفضلها وأثرها، ومن حيث إنها حقٌّ أو باطل، أو خير أو شر؛ ولذلك فإن الإسلام رغم أنه ترك للإنسان حرية التفكير والأمنيات، والوصول إلى تحقيق الرغبات مهما كانت؛ فإنه وضَّح الطريق الصحيحة التي ينبغي أن يسلكها المرء لتحقيق أمنياته، وربطها بالغايات السامية، والقيم النبيلة، التي تعمُر الدنيا وتبني الآخرة، وينال بها العبد رضوان الله ومغفرته وجنته؛ ولذلك فإن من المداخل التي اتخذها الشيطان لتنفيذ بنود خطته التي اختطَّها لنفسه في إضلال بني آدم ومناصَبة العَداء لهم: الوعودَ والأمانيَّ الكاذبة؛ فهو يعِدهم ويُمنيهم بالأماني الكاذبة؛ كإطالة العمر، والحصول على الدنيا وعلى ما يشتهون، ويعدهم أيضًا بالحُسنى على شركهم ومعاصيهم، فيقول للإنسان: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا لذَّتك، وستعلو على أقرانك، وتظفَر بأعدائك، والدنيا دول، ستكون لك كما كانت لغيرك، وبأنه الفائز في الدنيا والآخرة، إلى غير ذلك من الوعود الباطلة، المحبَّبة للنفس، التي لا يَتخذ لها أسبابًا، وغالبها يقوم على الكذب، وما لا حقيقة له؛ قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، وهذا إخبار عن الواقع؛ لأن الشيطان يعِد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك؛ ولهذا قال: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، كما قال تعالى مخبرًا عن إبليس يوم المعاد: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]، وانظروا إلى الشيطان كيف زيَّن لليهود والنصارى كفرهم، وغرَّهم بالأماني؛ حتى قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]، فردَّ الله عليهم فقال: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، ووعد الكفار في قتالهم المؤمنين بالنصر والتمكين والعزة والغلبة، ثم يتخلى عنهم، ويولِّي هاربًا: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48]، ووعد الأغنياء ممن تولَّوه بالثروة والمال في الآخرة بعد الدنيا؛ فيقول قائلهم: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]، فيدمِّر الله جنته في الدنيا، فيعلم أنه كان مغرورًا مخدوعًا.

 

معاشر المسلمين:

أمَّا المسلم فيأتي الشيطان بالأماني من عدة جوانب، فإن أحدنا لَيعمل الذنب، فلا يزال به الشيطان يُحسنه له ويُهونه عليه حتى يرى نفسه لم يعمل شيئًا، ويستحوذ الشيطان على أُناس، ويزين لهم الباطل، حتى يرى أحدهم نفسه أن قد عمل صالحًا يُثاب عليه، وهذا غاية الخسران عياذًا بالله؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، “يا مغرورًا بالأماني، لُعن إبليس وأُهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمر بها‏، وأُخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها‏، وحُجب القاتل عنها‏ بعد أن رآها – أي الجنة – عيانًا بملء كفٍّ من دم‏، وأمر بإيساع الظهر سياطًا – أي بالجَلد – بكلمة قذف أو بقطرة من مُسكر‏، فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيك؛  {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15]،‏‏‏ ودخلت امرأة النار في هِرة‏‏، وإن الرجل لَيتكلم بالكلمة لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل لَيعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في الوصية – أي أوصى بشكلٍ يخالف أمر الله عز وجل كأن يحرم أحد أولاده أو زوجه – فيُختم له بسوء عمله فيدخل النار‏”؛ [ابن القيم]، ومن أماني الشيطان الكاذبة أن يزيِّن للعاصي ترك التوبة والتسويف فيها، فلا يزال يقول: أتوب غدًا أو بعد غد، حتى يفجأه الموت ويُختم له بالسوء؛ وقال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]، فاحذر – أيها العاصي – من التسويف وتأخير التوبة من الذنوب والمعاصي، فإن أحدنا لا يدري متى يأتيه الأجل؛ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، “العمر بآخره والعمل بخاتمته‏، من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعًا، ومن أساء في آخر عمره لقِي ربه بذلك الوجه‏، كم جاء الثواب إليك فوقف بالباب فرده بوَّاب‏: سوف، ولعل، وعسى‏!”؛ [ابن القيم]؛ قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64]، وعندما يأتي اليقين للإنسان، فإنه يرى خداع قرينه (شيطانه) له، ويرى بأن هذا القرين قد خذله؛ كما يذكر الحق: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 29]، ومن أماني الشيطان الكاذبة: طول الأمل، فينفث الشيطان في رُوع الإنسان وخَلده أن الحياة طويلة، فترى الشيخ الكبير الذي بلغ من الكبر عتيًّا، في السبعين أو التسعين أو المائة من عمره، آماله طويلة وأمانيه غير محدودة، لا يزال قلبه متعلقًا بالدنيا، يرجو الحياة ويكره الموت، فإذا كان هذا هو حال الشيخ الكبير مع حب الدنيا وطول الأمل، فكيف بالشباب؟ كثير من الشباب في غفلة وسهو وإعراض، يظن أن الموت سوق لا يلِجها إلا الكبار، والحقيقة أن أكبر نسبة للوفَيات إنما هي في الشباب والطفولة، وآية ذلك قلة الشيوخ، لقلة من يعمر حتى يبلغ هذه المرحلة.

 

عباد الله:

طول الأمل من أماني الشيطان ووساوسه؛ به يستدرج الإنسان ويُغويه ويُنسيه، وهو أول حيلة اتخذها لإغواء الإنسان وإيقاعه في المعصية؛ جاء إبليس إلى آدم عليه السلام وهو في الجنة، فأقسم له أنه له من الناصحين، وأخبره أنه سيدله على شجرة إن أكل منها لا يفنى عمره ولا يَبلَى ملكه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، وفي آية أخرى: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 – 22]، وكم من الناس أغواهم الشيطان بطول الأمل فصدَّهم عن السبيل، وأوقعهم في الضلالة! قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]؛ قال الحسن البصري رحمه الله: “أي: زيَّن لهم الشيطان الخطايا، ومد لهم في الأمل”؛ [ (الجامع لأحكام القرآن: (16/249)) ].

يا من بدنياه اشتغل   **   قد غره طول الأمــــل 

الموت يأتي بغتـــــة   **   والقبر صندوق العمـل 

ولم تزل في غفلــــة   **   حتى دنا منك الأجـل 

 

أما بعد معاشر المسلمين:

فإن من الطبيعي أن يكون هناك أهداف وطموحات وأمنيات دنيوية لدى كل منا، لكن من الخطأ الفادح التعلق بها، وبذل أقصى الطاقات للوصول إليها، والاهتمام بها، وإهمال الآخرة تمامًا، ولتجنب ذلك؛ فلنعِ ونتأمل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]؛ أي: فحياتي بكل ما فيها، ونومي وصلاتي، وعبادتي، وأكلي وشربي، وذهابي وإيابي، وكل أعمالي، هي لله وحده ربي ورب العالمين جميعًا، جعلت أمرها وتعبها ووقتها لله وحده، وهذا ما أمرني به تعالى، فإياك ونسيانَ مهمتك الأساسية ها هنا، فإنما أنت خليفة من الله، لست مخلَّدًا، لك مهام وواجبات، عليك القيام بها على أكمل وجه، وسيأتي يوم وترحل وتغيب، ولا يبقى غير ذكرك وأعمالك، فماذا ستجني منها؟ وجميلٌ أن نقتدي بالصحابة رضوان الله عليهم، وجميل أن نملك قلبًا كقلبهم، محبًّا للخير عطوفًا، وقد كان معظم الصحابة رضوان الله عليهم يعيشون على الزهد والقلة، حتى من كان يملك مالًا وقوة، فقد كان يهَبها لله ورسوله، وكان دعاؤهم المعروف: (اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة)، وكانوا أقصر الناس أملًا وأكثرهم عملًا؛ أي: لا عيش في هذه الدنيا ولا حياة رغيدة، فإن النعيم والجِنان هناك في الآخرة، فهناك تكمن الحياة والمتعة؛ وقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا مع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر في أمنياتهم فقال لهم: تمنَّوا، فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أُنفقه في سبيل الله، فقال عمر: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة لؤلؤًا وجوهرًا أُنفقه في سبيل الله، فقال عمر: ولكني أتمنى رجالًا مِلء هذه الدار مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، أستعملهم في طاعة الله”.

 

فلنحذر مداخل الشيطان وأساليبه، ولنتحصن بالإيمان والعلم والعمل الصالح، فيا رب لتكُنْ قلوبنا معلقة بالآخرة، ولْنَبْنِ آمالنا هناك، وأحسِن خاتمتنا وعاقبة أمرنا، يا رحيم، وصلوا وسلموا على خير البرية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

___________________________________________________________

الكاتب: حسان أحمد العماري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

إنما يتقبَّل الله من المتقين

وأثرُ عامر بن عبدالله العنبري حريٌّ بتكرار النظر والاعتبار؛ إذ هو تدبُّر واتّعاظ، والمرء في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *