احمي سمعي وبصري – طريق الإسلام

حقُّ المسلم على أخيه أن ينصره إذا ظُلم، ويذُب عن عِرضه إذا خِيض فيه، فإن في ذلك أجرًا عظيمًا، وفي خِذلانه إثمًا مبينًا، والمؤمن مرآة المؤمن، يحُوطه من ورائه.

في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينبَ بنت جحش، زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ غَيرةً عليَّ، قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله مع عائشة في مِرطِها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلْنَني إليك يسألْنَك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي، فاستطالت عليَّ، وأنا أرقُب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طَرْفَه، هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرَفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعتُ بها لم أنشَبها حتى أنحيتُ عليها، قالت: فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «إنها ابنةُ أبي بكر».

 

يا ألله! ما أعظم الموقف وما أنصفه! زوجتان لرجل، كلٌّ منهما تريد أن تنتصر لنفسها في حضرة ضَرَّتِها.

 

أما في الغيبة ومن ورائها، فهو الإنصاف والعدل وقول الحق؛ قالت عائشة رضي الله عنها وهي تتحدث عن زينب في غيبتها: ((وكانت زينب تُساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرَ امرأةً قطُّ خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدقَ حديثًا، وأوصل للرحِم، وأعظم صدقةً، وأشدَّ ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدَّق به، وتقرَّب به إلى الله تعالى))؛ (متفق عليه).

طابت منابتها فطاب صنيعها   **   إن الفِعال إلى المنابت تُنسَبُ 

 

ويأتي دور زينب في الحديث عن ضرتها عائشة في غيبتها.

 

لما رُمِيَتِ الصِّدِّيقة بالإفك وتأخر الوحي، وضاق الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: ((فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: «يا زينب، ماذا علمتِ أو رأيتِ؟» فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ على عائشة إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تُساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع)).

بعض المعادن قد غلت أثمانهـــا   **   ما خالص الإبريز كالفخارِ 

بين الخلائق في الخِلال تفاوت   **   والشهد لا ينقاس بالجمارِ 

 

تلكم هن النساء الناصعات من جيل العدل والإنصاف.

 

مَن تقول مِن النساء لمن تساميها في المنزلة عند زوجها أو من قريناتها: (أحمي سمعي وبصري، ما أعلم عن فلانة إلا خيرًا)؟

 

من يحتمي بالورع، فلا يقول عن قرينه في العمل أو المنصب: (أحمي سمعي وبصري، ما أعلم عن فلان إلا خيرًا)؟

 

إن من المصائب – والمصائب جمَّة – أن يُبتلى المرء بصديق له يأمنه، يعرف منه ما لا يعرفه غيره، فيغدر به بالسعي إلى ذي سلطان أو جاه أو مال أو غيره، ليذكره عنده بغير الجميل، ويتعرض له بالوقِيعة والوِشاية؛ ليُجازى بجائزة، إنما هي لُعاعة من الدنيا، طعامٌ، أو كساء، أو دينار، أو إطراء، إنما هي بمثلها في جهنمَ.

 

أخرج أبو داود في سننه، وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل برجل مسلم أكلةً، فإن الله يُطعمه مثلها في جهنم، ومن كُسِيَ برجل مسلم ثوبًا، فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجل مسلم مقامَ سُمعة ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة».

 

و «من رمى مسلمًا بشيء يريد شَينه به، حبسه الله على جسر جهنم، حتى يخرج مما قال»؛ (أخرجه أهل السنن).

ألم تر أن الليث ليس يُضيره   **   إذا نبحت يومًا عليه کلابُ 

 

حقُّ المسلم على أخيه أن ينصره إذا ظُلم، ويذُب عن عِرضه إذا خِيض فيه، فإن في ذلك أجرًا عظيمًا، وفي خِذلانه إثمًا مبينًا، والمؤمن مرآة المؤمن، يحُوطه من ورائه.

 

ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من حمى مؤمنًا من منافق، بعث الله له مَلَكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن ردَّ عن عِرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضعٍ يُنتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حُرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نصرته».

 

وهذا ما التزمه القدوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق إخوانهم.

 

ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم في تبوك قال: «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل: يا رسول الله، حبسه بُرداه والنظر في عِطفيه، فقال معاذ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا))، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مقرًّا لإنكار معاذ على ذلك المغتاب لأخيه، ومشرعًا لمثله بالرد والذب.

 

فإن من أعظم ما يفكِّك بنيان الأمة، ويهُدُّ أركانها، ويهدد الفضيلة – الطعنَ في الأعراض والاستطالة على الحرمات.

 

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

 

 

فالوقيعة في الأعراض بضاعة الجبناء، وكفُّ اللسان عن المسلمين سِمة العلماء، وكلٌّ إلى جنسه يحِن؛ العلماء الربانيون حفظوا الله فحفِظهم وطهَّر ألسنتهم، اجتنبوا الغِيبة والطعن، والهمز واللمز، كما تُجتنب النجاسات، لا يسمحون بأن تُدار في مجالسهم.

 

يقول أحدهم: صحِبت فلانًا عشرين سنة، والله ما سمعت منه كلمةَ عتاب.

 

ويقول آخر: والله ما اغتبتُ مسلمًا مذ علمت أن الله حرَّم الغِيبة.

 

وكان الإمام أبو عبدالله البخاري إذا أراد أن يضعِّف رجلًا في الحديث، قال: “فيه نظر”، وكان يقول: “إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحدًا”.

 

قال ابن معين إمام علم الرجال في الحديث: “إنا لَنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من مائتي سنة”، قال ابن جنيد: “فدخلت على ابن أبي حاتم، وهو يحدِّث بكتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى، وارتعدت يداه، وسقط الكتاب، وجعل يبكي ويستعيدني الحكايةَ”.

سلفٌ إذا مر الزمان بذكرهم   **   وقف الزمان لهم مجلًّا مكبرا 

 

اللسان والكلام نعمة عظيمة، تكون من خلالها العبادات القولية المتنوعة، كما تكون من خلالها أيضًا قضاء الحاجات، والترويح عن النفس، غير أنها من أهم الجوارح التي ينبغي مراعاتها سلبًا وإيجابًا.

 

في حديث معاذ رضي الله عنه الطويل، وفيه: «فأخذ بلسانه فقال: كفَّ عليك هذا» ، قلت: يا رسول الله، وإنَّا لَمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: «ثكِلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم –أو قال: على مناخرهم– إلا حصائد ألسنتهم؟».

 

فاللسان يسرق الحسنات بعمله للسيئات؛ من الغِيبة، أو النميمة، أو قول الزور، أو شتم الناس، وسبهم، والسخرية منهم، وغير ذلك.

 

وقد يكون لسانك نهرًا يجري لك بالحسنات العظيمة في أعمال يسيرة؛ كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم ليلةَ أُسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قِيعان، وأن غِراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، ومما يتعين على الإنسان أن يشغل لسانه بطاعة مولاه؛ كما ورد في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال لسانك رَطْبًا من ذكر الله».

 

إن من أيسر الأشياء وأسهلها أن يلفِظ الإنسان تلك الكلمات، لكن قد لا يستشعر ما وراءها من الأجر العظيم، أو الإثم الكبير، حسب تلك اللفظة، فاختر ألفاظك، وكلماتك، كما تختار أطايبَ الطعام؛ فإنك تعرف بما تتحدث به.

 

يقول أبو بكر رضي الله عنه وهو يمسك بلسان نفسه: “هذا الذي أوردني الموارد”، وقالوا: “من كثُر كلامه كثر سقْطُه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه”.

 

وقالوا: اللسان عضلة، وخلفه كل معضلة، فما أكثر ما نتكلم به، وما أقل ما نتثبت فيه، إلا من رحم الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده»، فجمع هذا الحديث العظيم بين القول والفعل، وهناك آفات للسان يجب الحذر منها؛ ومن ذلك:

1- الكذب، وهو دليل على ضعف شخصية هذا الكاذب.

2- الغِيبة والنميمة، سواء كانت بالهمز – وهو الفعل – أو باللمز – وهو القول – قال تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11].

 

3- إفشاء الأسرار، فهو باب التفرق، والاختلاف، ونافذته.

 

4- السب واللعن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يكون اللَّعَّانون شفعاءَ، ولا شهداء يوم القيامة».

 

5- الكلام فيما لا يعني، وهو من معاول هدم البناء الخلقي، ولو كان كلامنا فيما يعنينا، لَهُدِينا ووُقينا.

 

6- المِراء والجدال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المِراء، وإن كان محقًّا…».

 

اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الغِيبة وقول الزور، وأموالنا من الربا وأكل الحرام، واحفظنا بحفظك، واستر علينا بسترك، يا عزيز يا رحيم.

 

اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وأعراضنا، ومن أراد بنا سوءًا، فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره.

____________________________________________________
الكاتب: د. محمد بن مجدوع الشهري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

كل أحاديث قضاء الصيام عن الميت

قال ﷺ:  «مَن مَاتَ وعليه صِيَامٌ صَامَ عنْه ولِيُّهُ» . [صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحيح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *